فصل: (الدَّرَجَةُ الْأُولَى عِلْمٌ جَلِيٌّ)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين ***


فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏دَرَجَاتُ الْفَقْرِ‏]‏

‏[‏الدَّرَجَةُ الْأُولَى فَقْرُ الزُّهَّادِ‏]‏

قَالَ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ دَرَجَاتُ الْفَقْرِ‏.‏ الدَّرَجَةُ الْأُولَى‏:‏ فَقْرُ الزُّهَّادِ‏.‏ وَهُوَ قَبْضُ الْيَدِ عَنْ الدُّنْيَا ضَبْطًا أَوْ طَلَبًا‏.‏ وَإِسْكَاتُ اللِّسَانِ عَنْهَا مَدْحًا أَوْ ذَمًّا‏.‏ وَالسَّلَامَةُ مِنْهَا طَلَبًا أَوْ تَرْكًا‏.‏ وَهَذَا هُوَ الْفَقْرُ الَّذِي تَكَلَّمُوا فِي شَرَفِهِ‏.‏

الدُّنْيَا عِنْدَ الْقَوْمِ‏:‏ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْمَالِ، وَالْجَاهِ، وَالصُّوَرِ، وَالْمَرَاتِبِ

وَاخْتَلَفَ الْمُتَكَلِّمُونَ فِيهَا عَلَى قَوْلَيْنِ‏.‏ حَكَاهُمَا أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ فِي مَقَالَاتِهِ‏.‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنَّهَا اسْمٌ لِمُدَّةِ بَقَاءِ هَذَا الْعَالَمِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّهَا اسْمٌ لِمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ‏.‏ فَمَا فَوْقَ السَّمَاءِ لَيْسَ مِنَ الدُّنْيَا‏.‏ وَمَا تَحْتَ الْأَرْضِ لَيْسَ مِنْهَا‏.‏

فَعَلَى الْأَوَّلِ‏:‏ تَكُونُ الدُّنْيَا زَمَانًا‏.‏ وَعَلَى الثَّانِي‏:‏ تَكُونُ مَكَانًا‏.‏

وَلَمَّا كَانَ لَهَا تَعَلُّقٌ بِالْجَوَارِحِ وَالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، كَانَ حَقِيقَةَ الْفَقْرِ‏:‏ تَعْطِيلُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ عَنْ تَعَلُّقِهَا بِهَا وَسَلْبِهَا مِنْهَا‏.‏ فَلِذَلِكَ قَالَ قَبْضُ الْيَدِ عَنِ الدُّنْيَا ضَبْطًا أَوْ طَلَبًا‏.‏

يَعْنِي يَقْبِضُ يَدَهُ عَنْ إِمْسَاكِهَا إِذَا حَصَلَتْ لَهُ‏.‏ فَإِذَا قَبَضَ يَدَهُ عَنِ الْإِمْسَاكِ جَادَ بِهَا‏.‏ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ حَاصِلَةٍ لَهُ كَفَّ يَدَهُ عَنْ طَلَبِهَا‏.‏ فَلَا يَطْلُبُ مَعْدُومَهَا‏.‏ وَلَا يَبْخَلُ بِمَوْجُودِهَا‏.‏

وَأَمَّا تَعْطِيلُهَا عَنِ اللِّسَانِ‏:‏

فَهُوَ أَنْ لَا يَمْدَحَهَا وَلَا يَذُمَّهَا‏.‏ فَإِنَّ اشْتِغَالَهُ بِمَدْحِهَا أَوْ ذَمِّهَا دَلِيلٌ عَلَى مَحَبَّتِهَا وَرَغْبَتِهِ فِيهَا‏.‏ فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِهِ‏.‏ وَإِنَّمَا اشْتَغَلَ بِذَمِّهَا حَيْثُ فَاتَتْهُ‏.‏ كَمَنْ طَلَبَ الْعُنْقُودَ فَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ، فَقَالَ‏:‏ هُوَ حَامِضٌ‏.‏ وَلَا يَتَصَدَّى لِذَمِّ الدُّنْيَا إِلَّا رَاغِبٌ مُحِبٌّ مُفَارِقٌ‏.‏ فَالْوَاصِلُ مَادِحٌ‏.‏ وَالْمُفَارِقُ ذَامٌّ‏.‏

وَأَمَّا تَعْطِيلُ الْقَلْبِ مِنْهَا فَبِالسَّلَامَةِ مِنْ آفَاتِ طَلَبِهَا وَتَرْكِهَا‏.‏ فَإِنَّ لِتَرْكِهَا آفَاتٌ‏.‏ وَلِطَلَبِهَا آفَاتٌ‏.‏ وَالْفَقْرُ سَلَامَةُ الْقَلْبِ مِنْ آفَاتِ الطَّلَبِ وَالتَّرْكِ‏.‏ بِحَيْثُ لَا يَحْجُبُهُ عَنْ رَبِّهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ‏.‏ لَا فِي طَلَبِهَا وَأَخْذِهَا وَلَا فِي تَرْكِهَا وَالرَّغْبَةِ عَنْهَا‏.‏

فَإِنْ قُلْتَ‏:‏ عَرَفْتُ الْآفَةَ فِي أَخْذِهَا وَطَلَبِهَا‏.‏ فَمَا وَجْهُ الْآفَةِ فِي تَرْكِهَا وَالرَّغْبَةِ عَنْهَا‏؟‏

قُلْتُ‏:‏ مِنْ وُجُوهٍ شَتَّى‏:‏

أَحَدُهَا‏:‏ أَنَّهُ إِذَا تَرَكَهَا- وَهُوَ بَشَرٌ لَا مَلَكٌ- تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِمَا يُقِيمُهُ وَيُقِيتُهُ وَيُعَيِّشُهُ‏.‏ وَمَا هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ‏.‏ فَيَبْقَى فِي مُجَاهَدَةٍ شَدِيدَةٍ مَعَ نَفْسِهِ لِتَرْكِ مَعْلُوِمِهَا وَحَظِّهَا مِنَ الدُّنْيَا‏.‏ وَهَذِهِ قِلَّةُ فِقْهٍ فِي الطَّرِيقِ، بَلِ الْفَقِيهُ الْعَارِفُ‏:‏ يَرُدُّهَا عَنْهُ بِلُقْمَةٍ‏.‏ كَمَا يَرُدُّ الْكَلْبَ إِذَا نَبَحَ عَلَيْهِ بِكِسْرَةٍ‏.‏ وَلَا يَقْطَعُ زَمَانَهُ بِمُجَاهَدَتِهِ وَمُدَافَعَتِهِ، بَلْ أَعْطِهَا حَظَّهَا، وَطَالِبْهَا بِمَا عَلَيْهَا مِنَ الْحَقِّ‏.‏

هَذِهِ طَرِيقَةُ الرُّسُلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ‏.‏ وَهِيَ طَرِيقَةُ الْعَارِفِينَ مِنْ أَرْبَابِ السُّلُوكِ‏.‏ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا‏.‏ وَلِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا‏.‏ وَلِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا‏.‏ وَلِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ‏.‏

وَالْعَارِفُ الْبَصِيرُ يَجْعَلُ عِوَضَ مُجَاهَدَتِهِ لِنَفْسِهِ فِي تَرْكِ شَهْوَةٍ مُبَاحَةٍ‏:‏ مُجَاهَدَتَهُ لِأَعْدَاءِ اللَّهِ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ عَلَى الْقُلُوبِ‏.‏ كَأَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ بَنِي الْعِلْمِ، وَبَنِي الْإِرَادَةِ، وَيَسْتَفْرِغُ قُوَاهُ فِي حَرْبِهِمْ وَمُجَاهَدَتِهِمْ‏.‏ وَيَتَقَوَّى عَلَى حَرْبِهِمْ بِإِعْطَاءِ النَّفْسِ حَقَّهَا مِنَ الْمُبَاحِ‏.‏ وَلَا يَشْتَغِلُ بِهَا‏.‏

وَمِنْ آفَاتِ التَّرْكِ‏:‏ تَطَلُّعُهُ إِلَى مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ إِذَا مَسَّتْهُ الْحَاجَةُ إِلَى مَا تَرَكَهُ، فَاسْتِدَامَتُهَا كَانَ أَنْفَعَ لَهُ مِنْ هَذَا التَّرْكِ‏.‏

وَمِنْ آفَاتِ تَرْكِهَا، وَعَدَمِ أَخْذِهَا‏:‏ مَا يُدَاخِلُهُ مِنَ الْكِبْرِ وَالْعُجْبِ وَالزَّهْوِ‏.‏ وَهَذَا يُقَابِلُ الزُّهْدَ فِيهَا وَتَرْكَهَا‏.‏ كَمَا أَنَّ كَسْرَةَ الْآخِذِ وَذِلَّتَهُ وَتَوَاضُعَهُ‏:‏ يُقَابِلُ الْآخِذَ التَّارِكَ‏.‏ فَفِي الْأَخْذِ آفَاتٌ‏.‏ وَفِي التَّرْكِ آفَاتٌ‏.‏

فَالْفَقْرُ الصَّحِيحُ‏:‏ السَّلَامَةُ مِنْ آفَاتِ الْأَخْذِ وَالتَّرْكِ‏.‏ وَهَذَا لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِفِقْهٍ فِي الْفَقْرِ‏.‏

قَوْلُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ‏:‏ فَهَذَا هُوَ الْفَقْرُ الَّذِي تَكَلَّمُوا فِي شَرَفِهِ‏.‏

يَعْنِي تَكَلَّمَ فِيهِ أَرْبَابُ السُّلُوكِ‏.‏ وَفَضَّلُوهُ وَمَدَحُوهُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ الرُّجُوعُ إِلَى السَّبْقِ بِمُطَالَعَةِ الْفَضْلِ‏]‏

قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ‏:‏ الرُّجُوعُ إِلَى السَّبْقِ بِمُطَالَعَةِ الْفَضْلِ مِنْ دَرَجَاتِ الْفَقْرِ‏.‏ وَهُوَ يُورِثُ الْخَلَاصَ مِنْ رُؤْيَةِ الْأَعْمَالِ‏.‏ وَيَقْطَعُ شُهُودَ الْأَحْوَالِ‏.‏ وَيُمَحِّصُ مِنْ أَدْنَاسِ مُطَالَعَةِ الْمَقَامَاتِ‏.‏

يُرِيدُ بِالرُّجُوعِ إِلَى السَّبْقِ‏:‏ الِالْتِفَاتَ إِلَى مَا سَبَقَتْ بِهِ السَّابِقَةُ مِنَ اللَّهِ بِمُطَالَعَةِ فَضْلِهِ وَمِنَّتِهِ وَجُودِهِ‏.‏ وَأَنَّ الْعَبْدَ- وَكُلَّ مَا فِيهِ مِنْ خَيْرٍ- فَهُوَ مَحْضُ جُودِ اللَّهِ وَإِحْسَانِهِ‏.‏ وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ مِنْ ذَاتِهِ سِوَى الْعَدَمِ‏.‏ وَذَاتُهُ وَصِفَاتُهُ وَإِيمَانُهُ وَأَعْمَالُهُ كُلُّهَا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْهِ‏.‏ فَإِذَا شَهِدَ هَذَا وَأَحْضَرَهُ قَلْبُهُ‏.‏ وَتَحَقَّقَ بِهِ‏:‏ خَلَّصَهُ مِنْ رُؤْيَةِ أَعْمَالِهِ‏.‏ فَإِنَّهُ لَا يَرَاهَا إِلَّا مِنَ اللَّهِ وَبِاللَّهِ‏.‏ وَلَيْسَتْ مِنْهُ هُوَ وَلَا بِهِ‏.‏

وَاتَّفَقَتْ كَلِمَةُ الطَّائِفَةِ عَلَى أَنَّ رُؤْيَةَ الْأَعْمَالِ حِجَابٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ اللَّهِ‏.‏ وَيُخَلِّصُهُ مِنْهَا‏:‏ شُهُودُ السَّبْقِ، وَمُطَالِعَةُ الْفَضْلِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ وَيَقْطَعُ شُهُودَ الْأَحْوَالِ‏.‏

لِأَنَّهُ إِذَا طَالَعَ سَبْقَ فَضْلِ اللَّهِ‏:‏ عَلِمَ أَنَّ كُلَّ مَا حَصَلَ لَهُ مِنْ حَالٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَهُوَ مَحْضُ جُودِهِ‏.‏ فَلَا يَشْهَدُ لَهُ حَالًا مَعَ اللَّهِ وَلَا مَقَامًا، كَمَا لَمْ يَشْهَدْ لَهُ عَمَلًا‏.‏ فَقَدْ جَعَلَ عُدَّتَهُ لِلِقَاءِ رَبِّهِ‏:‏ فَقْرَهُ مِنْ أَعْمَالِهِ وَأَحْوَالِهِ‏.‏ فَهُوَ لَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ إِلَّا بِالْفَقْرِ الْمَحْضِ‏.‏ فَالْفَقْرُ خَيْرُ الْعَلَاقَةِ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، وَالنِّسْبَةِ الَّتِي يَنْتَسِبُ بِهَا إِلَيْهِ، وَالْبَابُ الَّذِي يَدْخُلُ مِنْهُ عَلَيْهِ‏.‏

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ يُمَحِّصُ مِنْ أَدْنَاسِ مُطَالَعَةِ الْمَقَامَاتِ‏.‏

هُوَ مِنْ جِنْسِ التَّخَلُّصِ مِنْ رُؤْيَةِ الْأَعْمَالِ، وَالِانْقِطَاعِ عَنْ رُؤْيَةِ شُهُودِ الْأَحْوَالِ، وَمُطَالِعَةُ الْمَقَامَاتِ‏:‏ دَنَسٌ عِنْدَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ‏.‏ فَمُطَالَعَةُ الْفَضْلِ يُمَحِّصُ مِنْ هَذَا الدَّنَسِ‏.‏

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحَالِ وَالْمَقَامِ‏:‏ أَنَّ الْحَالَ مَعْنًى يَرِدُ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ غَيْرِ اجْتِلَابٍ لَهُ، وَلَا اكْتِسَابٍ، وَلَا تَعَمُّدٍ‏.‏ وَالْمَقَامُ يُتَوَصَّلُ إِلَيْهِ بِنَوْعِ كَسْبٍ وَطَلَبٍ‏.‏

فَالْأَحْوَالُ عِنْدَهُمْ مَوَاهِبٌ، وَالْمَقَامَاتُ مَكَاسِبٌ‏.‏ فَالْمَقَامُ يَحْصُلُ بِبَذْلِ الْمَجْهُودِ‏.‏ وَأَمَّا الْحَالُ‏:‏ فَمِنْ عَيْنِ الْجُودِ‏.‏

وَلَمَّا دَخَلَ الْوَاسِطِيُّ نَيْسَابُورَ سَأَلَ أَصْحَابَ أَبِي عُثْمَانَ‏:‏ بِمَاذَا كَانَ يَأْمُرُكُمْ شَيْخُكُمْ‏؟‏ فَقَالُوا‏:‏ كَانَ يَأْمُرُ بِالْتِزَامِ الطَّاعَاتِ، وَرُؤْيَةِ التَّقْصِيرِ فِيهَا‏.‏ فَقَالَ‏:‏ أَمَرَكُمْ بِالْمَجُوسِيَّةِ الْمَحْضَةِ‏.‏ هَلَّا أَمَرَكُمْ بِالْغَيْبَةِ عَنْهَا بِرُؤْيَةِ مُنْشِئِهَا وَمُجْرِيهَا‏؟‏‏.‏

قُلْتُ‏:‏ لَمْ يَأْمُرْهُمْ أَبُو عُثْمَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَنِيفِيَّةِ الْمَحْضَةِ‏.‏ وَهِيَ الْقِيَامُ بِالْأَمْرِ وَمُطَالَعَةُ التَّقْصِيرِ فِيهِ‏.‏ وَلَيْسَ فِي هَذَا مِنْ رَائِحَةِ الْمَجُوسِيَّةِ شَيْءٌ‏.‏ فَإِنَّهُ إِذَا بَذَلَ الطَّاعَةَ لِلَّهِ وَبِاللَّهِ صَانَهُ ذَلِكَ عَنْ الِاتِّحَادِ وَالشِّرْكِ‏.‏ وَإِذَا شَهِدَ تَقْصِيرَهُ فِيهَا صَانَهُ عَنِ الْإِعْجَابِ‏.‏ فَيَكُونُ قَائِمًا بِـ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏‏.‏

وَأَمَّا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْوَاسِطِيُّ‏:‏ فَمَشْهَدُ الْفَنَاءِ‏.‏ وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَشْهَدَ الْبَقَاءِ أَكْمَلُ‏.‏ فَإِنَّ مَنْ غَابَ عَنْ طَاعَاتِهِ‏:‏ لَمْ يَشْهَدْ تَقْصِيرَهُ فِيهَا‏.‏ وَمِنْ تَمَامِ الْعُبُودِيَّةِ‏:‏ شُهُودُ التَّقْصِيرِ‏.‏ فَمَشْهَدُ أَبِي عُثْمَانَ أَتَمُّ مِنْ مَشْهَدِ الْوَاسِطِيِّ‏.‏

وَ أَبُو عُثْمَانَ هَذَا‏:‏ هُوَ سَعِيدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ النَّيْسَابُورِيُّ مِنْ جُلَّةِ شُيُوخِ الْقَوْمِ وَعَارِفِيهِمْ‏.‏ وَكَانَ يُقَالُ‏:‏ فِي الدُّنْيَا ثَلَاثَةٌ، لَا رَابِعَ لَهُمْ‏:‏ أَبُو عُثْمَانَ النَّيْسَابُورِيُّ بِنَيْسَابُورَ، وَ الْجُنَيْدُ بِبَغْدَادَ، وَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْجَلَا بِالشَّامِ‏.‏ وَلَهُ كَلَامٌ رَفِيعٌ عَالٍ فِي التَّصَوُّفِ وَالْمَعْرِفَةِ‏.‏ وَكَانَ شَدِيدَ الْوَصِيَّةِ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ، وَتَحْكِيمِهَا وَلُزُومِهَا‏.‏ وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ مَزَّقَ ابْنُهُ قَمِيصًا عَلَى نَفْسِهِ‏.‏ فَفَتَحَ أَبُو عُثْمَانَ عَيْنَيْهِ، وَهُوَ فِي السِّيَاقِ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ يَا بُنَيَّ خِلَافُ السُّنَّةِ فِي الظَّاهِرِ، عَلَامَةُ رِيَاءٍ فِي الْبَاطِنِ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ الِاضْطِرَارُ‏]‏

قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ‏:‏ الِاضْطِرَارُ مِنْ دَرَجَاتِ الْفَقْرِ‏.‏ وَالْوُقُوعُ فِي يَدِ التَّقَطُّعِ الْوِجْدَانِيِّ‏.‏ أَوْ الِاحْتِبَاسُ فِي بَيْدَاءِ قَيْدِ التَّجْرِيدِ‏.‏ وَهَذَا فَقْرُ الصُّوفِيَّةِ‏.‏

الِاضْطِرَارُ‏:‏ شُهُودُ كَمَالِ الضَّرُورَةِ، وَالْفَاقَةُ عِلْمًا وَحَالًا‏.‏

وَيُرِيدُ بِالْوُقُوعِ فِي يَدِ التَّقَطُّعِ الْوِجْدَانِيِّ‏:‏ حَضْرَةَ الْجَمْعِ الَّتِي لَيْسَ عِنْدَهَا أَغْيَارٌ‏.‏ فَهِيَ مُنْقَطِعَةٌ عَنِ الْأَغْيَارِ، وَحْدَانِيَّةٌ فِي نَفْسِهَا‏.‏ وَالْوُقُوعُ فِي يَدِهَا‏:‏ الِاسْتِسْلَامُ وَالْإِذْعَانُ لَهَا‏.‏ وَالدُّخُولُ فِي رِقِّهَا‏.‏

وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ حَضْرَةَ الْجَمْعِ عِنْدَهُمْ‏:‏ هِيَ شُهُودُ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ، وَرُؤْيَتُهَا بِنُورِ الْكَشْفِ، حَيْثُ يَشْهَدُهَا مَنْشَأُ جَمِيعِ الْكَائِنَاتِ‏.‏ وَالْكَائِنَاتُ عَدَمٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا‏.‏

وَأَمَّا الِاحْتِبَاسُ فِي بَيْدَاءِ قَيْدِ التَّجْرِيدِ‏.‏

فَهُوَ تَجْرِيدُ الْفَرْدَانِيَّةِ أَنْ يَشْهَدَ مَعَهَا غَيْرَهَا، وَهُوَ الْفَنَاءُ عَنْ شُهُودِ السِّوَى‏.‏

وَسُمِّيَ ذَلِكَ احْتِبَاسًا لِأَنَّهُ مَنَعَ نَفْسَهُ عَنْ شُهُودِ الْأَغْيَارِ‏.‏ وَجَعَلَ لِلتَّجْرِيدِ قَيْدًا‏.‏ وَهُوَ التَّقَيُّدُ بِشُهُودِ الْحَقِيقَةِ‏.‏

وَجَعَلَ الْقَيْدَ بَيْدَاءَ لِوَجْهَيْنِ‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنَّ الْأَغْيَارَ تَبِيدُ فِيهِ وَتَنْعَدِمُ‏.‏ وَلَا يَكُونُ مَعَهُ سِوَاهُ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ لِسَعَتِهِ وَفَضَائِهِ‏.‏ فَصَاحِبُ مَشْهَدِهِ‏:‏ فِي بَيْدَاءَ وَاسِعَةٍ، وَإِنِ احْتُبِسَ فِي قَيْدِ شُهُودِهِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ وَهَذَا فَقْرُ الصُّوفِيَّةِ‏.‏

قَدْ يُفْهَمُ مِنْهُ‏:‏ أَنَّ التَّصَوُّفَ أَعْلَى عِنْدِهِ مِنَ الْفَقْرِ‏.‏ فَإِنَّ هَذِهِ الدَّرَجَةَ الثَّالِثَةَ- الَّتِي هِيَ أَعْلَى دَرَجَاتِ الْفَقْرِ عِنْدَهُ- هِيَ مِنْ بَعْضِ مَقَامَاتِ الصُّوفِيَّةِ‏.‏

وَطَائِفَةٌ تُنَازِعُهُ فِي ذَلِكَ، وَتَقُولُ‏:‏ التَّصَوُّفُ دُونَ هَذَا الْمَقَامِ بِكَثِيرٍ‏.‏ وَالتَّصَوُّفُ وَسِيلَةٌ إِلَى هَذَا الْفَقْرِ‏.‏ فَإِنَّ التَّصَوُّفَ خُلُقٌ‏.‏ وَهَذَا الْفَقْرُ حَقِيقَةٌ، وَغَايَةٌ لَا غَايَةَ وَرَاءَهَا‏.‏

وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْخِلَافِ بَيْنَ الْقَوْمِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ‏.‏ وَحَكَيْنَا فِيهَا ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ، هَذَيْنِ‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ أَنَّهُ لَا يُفَضَّلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ‏.‏ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَا تَتِمُّ حَقِيقَتُهُ إِلَّا بِالْآخَرِ‏.‏ وَهَذَا قَوْلُ الشَّامِيِّينَ‏.‏ وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ مَنْزِلَةُ الْغِنَى

وَمِنْ مَنَازِلِ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ مَنْزِلَةُ الْغِنَى الْعَالِي‏.‏

وَهُوَ نَوْعَانِ‏:‏ غِنًى بِاللَّهِ، وَغِنًى عَنْ غَيْرِ اللَّهِ، وَهُمَا حَقِيقَةُ الْفَقْرِ‏.‏ وَلَكِنَّ أَرْبَابَ الطَّرِيقِ أَفْرَدُوا لِلْغِنَى مَنْزِلَةً‏.‏

قَالَ صَاحِبُ ‏"‏ الْمَنَازِلِ ‏"‏ رَحِمَهُ اللَّهُ‏:‏ بَابُ الْغِنَى‏.‏ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى‏}‏‏.‏

وَفِي الْآيَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنَّهُ أَغْنَاهُ مِنَ الْمَالِ بَعْدَ فَقْرِهِ‏:‏ وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ‏.‏ لِأَنَّهُ قَابَلَهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ عَائِلًا، وَالْعَائِلُ‏:‏ هُوَ الْمُحْتَاجُ‏.‏ لَيْسَ ذَا الْعَيْلَةِ‏.‏ فَأَغْنَاهُ مِنَ الْمَالِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّهُ أَرْضَاهُ بِمَا أَعْطَاهُ‏.‏ وَأَغْنَاهُ بِهِ عَنْ سِوَاهُ‏.‏ فَهُوَ غِنَى قَلْبٍ وَنَفْسٍ، لَا غِنَى مَالٍ‏.‏ وَهُوَ حَقِيقَةُ الْغِنَى‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏- وَهُوَ الصَّحِيحُ- أَنَّهُ يَعُمُّ النَّوْعَيْنِ‏:‏ نَوْعَيِ الْغِنَى؛ فَأَغْنَى قَلْبَهُ بِهِ‏.‏ وَأَغْنَاهُ مِنَ الْمَالِ‏.‏

ثُمَّ قَالَ‏:‏ الْغِنَى اسْمٌ لِلْمِلْكِ التَّامِّ‏.‏

يَعْنِي أَنَّهُ مَنْ كَانَ مَالِكًا مَنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَلَيْسَ بِغَنِيٍّ‏.‏ وَعَلَى هَذَا‏:‏ فَلَا يَسْتَحِقُّ اسْمَ الْغَنِيَّ بِالْحَقِيقَةِ إِلَّا اللَّهُ‏.‏ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَقِيرٌ إِلَيْهِ بِالذَّاتِ‏.‏

‏[‏دَرَجَاتُ الْغِنَى‏]‏

‏[‏الدَّرَجَةُ الْأُولَى غِنَى الْقَلْبِ‏]‏

قَالَ‏:‏ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ دَرَجَاتُ الْغِنَى‏.‏ الدَّرَجَةُ الْأُولَى‏:‏ غِنَى الْقَلْبِ مِنْ دَرَجَاتِ الْغِنَى‏.‏ وَهُوَ سَلَامَتُهُ مِنَ السَّبَبِ‏.‏ وَمُسَالَمَتُهُ لِلْحُكْمِ‏.‏ وَخَلَاصُهُ مِنَ الْخُصُومَةِ‏.‏

حَقِيقَةُ غِنَى الْقَلْبِ‏:‏ تُعَلُّقَهُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ‏.‏ وَحَقِيقَةُ فَقْرِهِ الْمَذْمُومِ‏:‏ تُعَلُّقُهُ بِغَيْرِهِ‏.‏ فَإِذَا تَعَلَّقَ بِاللَّهِ حَصَلَتْ لَهُ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا‏.‏

سَلَامَتُهُ مِنَ السَّبَبِ أَيْ مِنَ التَّعَلُّقِ بِهِ‏.‏ لَا مِنَ الْقِيَامِ بِهِ‏.‏ وَالْغِنَى عِنْدَ أَهْلِ الْغَفْلَةِ بِالسَّبَبِ‏.‏ وَلِذَلِكَ قُلُوبُهُمْ مُعَلَّقَةٌ بِهِ‏.‏ وَعِنْدَ الْعَارِفِينَ بِالْمُسَبِّبِ‏.‏ وَكَذَلِكَ الصِّنَاعَةُ وَالْقُوَّةُ‏.‏ فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ‏:‏ هِيَ جِهَاتُ الْغِنَى عِنْدَ النَّاسِ‏.‏ وَهِيَ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ إِنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لِغَنِيٍّ‏.‏ وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ وَفِي رِوَايَةٍ‏:‏ وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ وَهُوَ غِنًى بِالشَّيْءِ‏.‏ فَصَاحِبُهَا غَنِيٌّ بِهَا إِذَا سَكَنَتْ نَفْسُهُ إِلَيْهَا‏.‏ وَإِنْ كَانَ سُكُونُهُ إِلَى رَبِّهِ‏:‏ فَهُوَ غَنِيٌّ بِهِ‏.‏ وَكُلُّ مَا سَكَنَتِ النَّفْسُ إِلَيْهِ فَهِيَ فَقِيرَةٌ إِلَيْهِ‏.‏

وَأَمَّا مُسَالَمَةُ الْحُكْمِ فَعَلَى نَوْعَيْنِ‏.‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ مُسَالَمَةُ الْحُكْمِ الدِّينِيِّ الْأَمْرِيِّ‏.‏ وَهِيَ مُعَانَقَتُهُ وَمُوَافَقَتُهُ‏.‏ ضِدَّ مُحَارَبَتِهِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ مُسَالَمَةُ الْحُكْمِ الْكَوْنِيِّ الْقَدَرِيِّ‏.‏ الَّذِي يَجْرِي عَلَيْهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى دَفْعِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِدَفْعِهِ‏.‏

وَفِي مُسَالَمَةِ الْحُكْمِ نُكْتَةٌ لَا بُدَّ مِنْهَا‏.‏ وَهِيَ تَجْرِيدُ إِضَافَتِهِ وَنِسْبَتِهِ إِلَى مَنْ صَدَرَ عَنْهُ، بِحَيْثُ لَا يَنْسُبُهُ إِلَى غَيْرِهِ‏.‏

وَهَذَا يَتَضَمَّنُ تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ فِي مُسَالَمَةِ الْحُكْمِ الْكَوْنِيِّ‏.‏ وَتَوْحِيدَ الْإِلَهِيَّةِ فِي مُسَالَمَةِ الْحُكْمِ الدِّينِيِّ‏.‏ وَهُمَا حَقِيقَةُ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏‏.‏

وَأَمَّا الْخَلَاصُ مِنَ الْخُصُومَةِ‏:‏

فَإِنَّمَا يُحْمَدُ مِنْهُ‏:‏ الْخَلَاصُ مِنَ الْخُصُومَةِ بِنَفْسِهِ لِنَفْسِهِ‏.‏ وَأَمَّا إِذَا خَاصَمَ بِاللَّهِ وَلِلَّهِ‏:‏ فَهَذَا مِنْ كَمَالِ الْعُبُودِيَّةِ‏.‏ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي اسْتِفْتَاحِهِ‏:‏ اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ‏.‏ وَبِكَ آمَنْتُ‏.‏ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ‏.‏ وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ‏.‏ وَبِكَ خَاصَمْتُ‏.‏ وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ‏.‏

‏[‏الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ غِنَى النَّفْسِ‏]‏

قَالَ‏:‏ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ‏.‏ غِنَى النَّفْسِ مِنْ دَرَجَاتِ الْغِنَى‏.‏ وَهُوَ اسْتِقَامَتُهَا عَلَى الْمَرْغُوبِ‏.‏ وَسَلَامَتُهَا مِنَ الْحُظُوظِ‏.‏ وَبَرَاءَتُهَا مِنَ الْمُرَاءَاةِ

جَعَلَ الشَّيْخُ‏:‏ غِنَى النَّفْسِ فَوْقَ غِنَى الْقَلْبِ‏.‏

وَمَعْلُومٌ‏:‏ أَنَّ أُمُورَ الْقَلْبِ أَكْمَلُ وَأَقْوَى مِنْ أُمُورِ النَّفْسِ‏.‏ لَكِنَّ فِي هَذَا التَّرْتِيبِ نُكْتَةً لَطِيفَةً‏.‏ وَهِيَ أَنَّ النَّفْسَ مِنْ جُنْدِ الْقَلْبِ وَرَعِيَّتِهِ‏.‏ وَهِيَ مِنْ أَشَدِّ جُنْدِهِ خِلَافًا عَلَيْهِ، وَشِقَاقًا لَهُ‏.‏ وَمِنْ قِبَلِهَا تَتَشَوَّشُ عَلَيْهِ الْمَمْلَكَةُ‏.‏ وَيَدْخُلُ عَلَيْهِ الدَّاخِلُ‏.‏ فَإِذَا حَصَلَ لَهُ كَمَالٌ بِالْغِنَى‏:‏ لَمْ يَتِمَّ لَهُ إِلَّا بِغِنَاهَا أَيْضًا‏.‏ فَإِنَّهَا مَتَى كَانَتْ فَقِيرَةً عَادَ حُكْمُ فَقْرِهَا عَلَيْهِ‏.‏ وَتَشَوَّشَ عَلَيْهِ غِنَاهُ‏.‏ فَكَانَ غِنَاهَا تَمَامًا لِغِنَاهُ وَكَمَالًا لَهُ‏.‏ وَغِنَاهُ أَصْلًا بِغِنَاهَا‏.‏ فَمِنْهُ يَصِلُ الْغِنَى إِلَيْهَا‏.‏ وَمِنْهَا يَصِلُ الْفَقْرُ وَالضَّرَرُ وَالْعَنَتُ إِلَيْهِ‏.‏

إِذَا عُرِفَ هَذَا، فَالشَّيْخُ جَعَلَ غِنَاهَا بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ‏:‏

اسْتِقَامَتُهَا عَلَى الْمَرْغُوبِ وَهُوَ الْحَقُّ تَعَالَى‏.‏ وَاسْتِقَامَتُهَا عَلَيْهِ‏:‏ اسْتِدَامَةُ طَلَبِهِ‏.‏ وَقَطْعُ الْمَنَازِلِ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِ‏.‏

الثَّانِي‏:‏ سَلَامَتُهَا مِنَ الْحُظُوظِ وَهِيَ تَعَلُّقَاتُهَا الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ بِمَا سِوَى اللَّهِ‏.‏

الثَّالِثُ‏:‏ بَرَاءَتُهَا مِنَ الْمُرَاءَاةِ وَهِيَ إِرَادَةُ غَيْرِ اللَّهِ بِشَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِهَا وَأَقْوَالِهَا‏.‏ فَمُرَاءَاتُهَا دَلِيلٌ عَلَى شِدَّةِ فَقْرِهَا‏.‏ وَتَعَلُّقُهَا بِالْحُظُوظِ مِنْ فَقْرِهَا أَيْضًا‏.‏

وَعَدَمُ اسْتِقَامَتِهَا عَلَى مَطْلُوبِهَا الْحَقَّ‏:‏ أَيْضًا مِنْ فَقْرِهَا‏.‏ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِدَةٍ لِلَّهِ‏.‏ إِذْ لَوْ وَجَدَتْهُ لَاسْتَقَامَتْ عَلَى السَّيْرِ إِلَيْهِ‏.‏ وَلَقَطَعَتْ تَعَلُّقَاتِها وَحُظُوظَهَا مِنْ غَيْرِهِ‏.‏ وَلَمَا أَرَادَتْ بِعَمَلِهَا غَيْرَهُ‏.‏

فَلَا تَسْتَقِيمُ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ إِلَّا لِمَنْ قَدْ ظَفِرَ بِنَفْسِهِ، وَوَجَدَ مَطْلُوبَهُ‏.‏ وَمَا لَمْ يَجِدْ رَبَّهُ تَعَالَى فَلَا اسْتِقَامَةَ لَهُ‏.‏ وَلَا سَلَامَةَ لَهَا مِنَ الْحُظُوظِ‏.‏ وَلَا بَرَاءَةَ لَهَا مِنَ الرِّيَاءِ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ الْغِنَى بِالْحَقِّ‏]‏

قَالَ‏:‏ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ‏:‏ الْغِنَى بِالْحَقِّ مِنْ دَرَجَاتِ الْغِنَى‏.‏ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ مَرَاتِبُ الْغِنَى بِالْحَقِّ‏.‏ الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى‏:‏ شُهُودُ ذِكْرِهِ إِيَّاكَ‏.‏ وَالثَّانِيَةُ‏:‏ دَوَامُ مَطَالَعَةِ أَوَّلِيَّتِهِ‏.‏ وَالثَّالِثَةُ‏:‏ الْفَوْزُ بِوُجُودِهِ‏.‏

أَمَّا شُهُودُ ذِكْرِهِ إِيَّاكَ فَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا‏.‏

وَأَمَّا مُطَالَعَةُ أَوَّلِيَّتِهِ فَهُوَ سَبْقُهُ لِلْأَشْيَاءِ جَمِيعًا‏.‏ فَهُوَ الْأَوَّلُ الَّذِي لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ‏.‏

قَالَ بَعْضُهُمْ‏.‏ مَا رَأَيْتُ شَيْئًا إِلَّا وَقَدْ رَأَيْتُ اللَّهَ قَبْلَهُ‏.‏

فَإِنْ قُلْتَ‏:‏ وَأَيُّ غِنًى يَحْصُلُ لِلْقَلْبِ مِنْ مُطَالَعَةِ أَوَّلِيَّةِ الرَّبِّ، وَسَبْقِهِ لِكُلِّ شَيْءٍ‏؟‏ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا حَاصِلٌ لِكُلِّ أَحَدٍ، مِنْ غَنِيٍّ أَوْ فَقِيرٍ، فَمَا وَجْهُ الْغِنَى الْحَاصِلِ بِهِ‏؟‏

قُلْتُ‏:‏ إِذَا شَهِدَ الْقَلْبُ سَبْقَهُ لِلْأَسْبَابِ، وَأَنَّهَا كَانَتْ فِي حَيِّزِ الْعَدَمِ‏.‏ وَهُوَ الَّذِي كَسَاهَا حُلَّةَ الْوُجُودِ، فَهِيَ مَعْدُومَةٌ بِالذَّاتِ‏.‏ فَقِيرَةٌ إِلَيْهِ بِالذَّاتِ‏.‏ وَهُوَ الْمَوْجُودُ بِذَاتِهِ‏.‏ وَالْغَنِيُّ بِذَاتِهِ لَا بِغَيْرِهِ‏.‏ فَلَيْسَ الْغِنَى فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا بِهِ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا لَهُ‏.‏ فَالْغِنَى بِغَيْرِهِ‏:‏ عَيْنُ الْفَقْرِ‏.‏ فَإِنَّهُ غِنًى بِمَعْدُومٍ فَقِيرٍ‏.‏ وَفَقِيرٌ كَيْفَ يَسْتَغْنِي بِفَقِيرٍ مِثْلِهِ‏؟‏

وَأَمَّا الْفَوْزُ بِوُجُودِهِ فَإِشَارَةُ الْقَوْمِ كُلِّهِمْ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى‏.‏ وَهُوَ نِهَايَةُ سَفَرِهِمْ‏.‏ وَفِي الْأَثَرِ الْإِلَهِيِّ‏:‏ ابْنَ آدَمَ، اطْلُبْنِي تَجِدْنِي، فَإِنْ وَجَدَتْنِي وَجَدْتَ كُلَّ شَيْءٍ‏.‏ وَإِنْ فُتُّكَ فَاتَكَ كُلُّ شَيْءٍ‏.‏ وَأَنَا أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ‏.‏

وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ مَعْنَى وَجُودِهِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالْفَوْزَ بِهِ‏:‏ فَلْيَحْثُ عَلَى رَأْسِهِ الرَّمَادَ‏.‏ وَلْيَبْكِ عَلَى نَفْسِهِ‏.‏ وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ مَنْزِلَةُ الْمُـرَادِ

وَمِنْ مَنَازِلِ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ مَنْزِلَةُ الْمُـرَادِ‏.‏

أَفْرَدَهَا الْقَوْمُ بِالذِّكْرِ‏.‏ وَفِي الْحَقِيقَةِ‏:‏ فَكُلُّ مُرِيدٍ مُرَادٌ‏.‏ بَلْ لَمْ يَصِرْ مُرِيدًا إِلَّا بَعْدَ أَنْ كَانَ مُرَادًا‏.‏ لَكِنَّ الْقَوْمَ خَصُّوا الْمُرِيدَ بِالْمُبْتَدِئِ، وَالْمُرَادَ بِالْمُنْتَهِي‏.‏

قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ‏:‏ الْمُرِيدُ مُتَحَمِّلٌ، وَالْمُرَادُ مَحْمُولٌ، وَقَدْ كَانَ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرِيدًا، إِذْ قَالَ‏:‏ ‏{‏رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي‏}‏ وَنَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَادًا، إِذْ قِيلَ لَهُ ‏{‏أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ‏}‏‏.‏

وَسُئِلَ الْجُنَيْدُ عَنِ الْمُرِيدِ وَالْمُرَادِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ الْمُرِيدُ يَتَوَلَّى سِيَاسَتَهُ الْعِلْمُ‏.‏ وَالْمُرَادُ‏:‏ يَتَوَلَّى رِعَايَتَهُ الْحَقُّ‏.‏ لِأَنَّ الْمُرِيدَ يَسِيرُ، وَالْمُرَادَ يَطِيرُ‏.‏ فَمَتَى يَلْحَقُ السَّائِرُ الطَّائِرَ‏؟‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏تَعْرِيفُ الْمُرَادِ‏]‏

قَالَ صَاحِبُ ‏"‏ الْمَنَازِلِ ‏"‏‏:‏

بَابُ الْمُرَادِ تَعْرِيفُهُ‏.‏ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ‏}‏ أَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي هَذَا الْعِلْمِ جَعَلُوا الْمُرِيدَ وَالْمُرَادَ اثْنَيْنِ‏.‏ وَجَعَلُوا مَقَامَ الْمُرَادِ فَوْقَ مَقَامِ الْمُرِيدِ وَإِنَّمَا أَشَارُوا بِاسْمِ الْمُرَادِ إِلَى الضَّنَائِنِ الَّذِينَ وَرَدَ فِيهِمُ الْخَبَرُ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ وَجْهُ اسْتِشْهَادِهِ بِالْآيَةِ‏:‏ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَلْقَى إِلَى رَسُولِهِ كِتَابَهُ، وَخَصَّهُ بِكَرَامَتِهِ‏.‏ وَأَهَّلَهُ لِرِسَالَتِهِ وَنُبُوَّتِهِ‏.‏ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى رَجَاءٍ، أَوْ نَالَهُ بِكَسْبٍ، أَوْ تَوَسَّلَ إِلَيْهِ بِعَمَلٍ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ أُرِيدَ بِهِ‏.‏ فَهُوَ الْمُرَادُ حَقِيقَةً‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ إِنْ أَكْثَرَهُمْ جَعَلُوا الْمُرِيدَ وَالْمُرَادَ اثْنَيْنِ فَهُوَ تَعَرُّضٌ إِلَى أَنَّ مِنْهُمْ مَنِ اكْتَفَى عَنْ ذِكْرِ مَقَامِ الْمُرَادِ بِمَنْزِلَةِ الْإِرَادَةِ لِأَنَّ صَاحِبَهَا مُرِيدٌ مُرَادٌ‏.‏

وَأَمَّا إِشَارَتُهُمْ إِلَى الضَّنَائِنِ

فَالْمُرَادُ بِهِ‏:‏ حَدِيثٌ يُرْوَى مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ إِنَّ لِلَّهِ ضَنَائِنَ مِنْ خَلْقِهِ‏.‏ يُحْيِيهِمْ فِي عَافِيَةٍ‏.‏ وَيُمِيتُهُمْ فِي عَافِيَةٍ‏.‏

وَالضَّنَائِنُ‏:‏ الْخَصَائِصُ‏.‏ يُقَالُ‏:‏ هُوَ ضِنَّتِي مِنْ بَيْنِ النَّاسِ- بِكَسْرِ الضَّادِ- أَيِ الَّذِي أَخْتَصُّ بِهِ وَأَضِنُّ بِجُودَتِهِ، أَيْ أَبْخَلُ بِهَا أَنْ أُضَيِّعَهَا‏.‏

وَقَدْ مَثَّلَ لِلْمُرِيدِ وَالْمُرَادِ بِقَوْمٍ بَعَثَ إِلَيْهِمْ سُلْطَانُهُمْ يَسْتَدْعِيهِمْ إِلَى حَضْرَتِهِ مِنْ بِلَادٍ نَائِيَةٍ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ بِالْأَدِلَّةِ وَالْأَمْوَالِ، وَالْمَرَاكِبِ وَأَنْوَاعِ الزَّادِ‏.‏ وَأَمَرَهُمْ بِأَنْ يَتَجَشَّمُوا إِلَيْهِ قَطْعَ السُّبُلِ وَالْمَفَاوِزِ‏.‏ وَأَنْ يَجْتَهِدُوا فِي الْمَسِيرِ حَتَّى يَلْحَقُوا بِهِ‏.‏ وَبَعَثَ خَيْلًا لَهُ وَمَمَالِيكَ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ احْمِلُوهُمْ عَلَى هَذِهِ الْخَيْلِ الَّتِي تَسْبِقُ الرِّكَابَ‏.‏ وَاخْدُمُوهُمْ فِي طَرِيقِهِمْ‏.‏ وَلَا تَدَعُوهُمْ يُعَانُونَ مُؤْنَةَ الشَّدِّ وَالرَّبْطِ، بَلْ إِذَا نَزَلُوا فَأَرِيحُوهُمْ‏.‏ ثُمَّ احْمِلُوهُمْ حَتَّى تُقَدِّمُوهُمْ عَلَيَّ‏.‏

فَلَمْ يَجِدْ هَؤُلَاءِ مِنْ مُجَاهَدَةِ السَّيْرِ، وَمُكَابَدَتِهِ، وَوَعْثَاءِ السَّفَرِ مَا وَجَدَهُ غَيْرُهُمْ‏.‏

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ‏:‏ الْمُرِيدُ يَنْتَقِلُ مِنْ مَنْزِلَةِ الْإِرَادَةِ إِلَى أَنْ يَصِيرَ مُرَادًا فَكَانَ مُحِبًّا‏.‏ فَصَارَ مَحْبُوبًا‏.‏ فَكُلُّ مُرِيدٍ صَادِقٍ نِهَايَةُ أَمْرِهِ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا‏.‏ وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى هَذَا‏.‏

وَ صَاحِبُ ‏"‏ الْمَنَازِلِ ‏"‏ كَأَنَّ عِنْدَهُ الْمُرَادَ هُوَ الْمَجْذُوبُ، وَالْمُرِيدَ هُوَ السَّالِكُ عَلَى طَرِيقِ الْجَادَّةِ‏.‏

‏[‏دَرَجَاتُ الْمُرَادِ‏]‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الدَّرَجَةُ الْأُولَى أَنْ يَعْصِمَ الْعَبْدَ‏]‏

قَالَ‏:‏ وَلِلْمُرَادِ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ دَرَجَاتُ الْمُرَادِ‏:‏ الْأُولَى‏:‏ أَنْ يَعْصِمَ الْعَبْدَ مِنْ دَرَجَاتِ الْمُرَادِ‏.‏ وَهُوَ مُسْتَشْرِفٌ لِلْجَفَاءِ، اضْطِرَارًا بِتَنْغِيصِ الشَّهَوَاتِ، وَتَعْوِيقِ الْمَلَاذِ، وَسَدِّ مَسَالِكِ الْمَعَاطِبِ عَلَيْهِ إِكْرَاهًا‏.‏

يَعْنِي‏:‏ أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا اسْتَشْرَفَتْ نَفْسُهُ لِلْجَفَاءِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ- بِمُوَافَقَةِ شَهَوَاتِهِ- عَصَمَهُ سَيِّدُهُ اضْطِرَارًا، بِأَنْ يُنَغِّصَ عَلَيْهِ الشَّهَوَاتِ‏.‏ فَلَا تَصْفُو لَهُ أَلْبَتَّةَ‏.‏ بَلْ لَا يَنَالُ مَا يَنَالُ مِنْهَا إِلَّا مَشُوبًا بِأَنْوَاعِ التَّنْغِيصِ، الَّذِي رُبَّمَا أَرْبَى عَلَى لَذَّتِهَا وَاسْتَهْلَكَهَا، بِحَيْثُ تَكُونُ اللَّذَّةُ فِي جَنْبِ التَّنْغِيصِ كَالْخِلْسَةِ وَالْغَفْوَةِ، وَكَذَلِكَ يَعُوقُ الْمَلَاذَ عَلَيْهِ بِأَنْ يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، حَتَّى لَا يَرْكَنَ إِلَيْهَا، وَلَا يَطْمَئِنَّ إِلَيْهَا وَيُسَاكِنَهَا‏.‏ فَيَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَسْبَابِهَا‏.‏ فَإِنْ هُيِّئَتْ لَهُ قُيِّضَ لَهُ مُدَافِعٌ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اسْتِيفَائِهَا، فَيَقُولُ‏:‏ مِنْ أَيْنَ دُهِيتَ‏؟‏ وَإِنَّمَا هِيَ عَيْنُ الْعِنَايَةِ وَالْحَمِيَّةِ وَالصِّيَانَةِ‏.‏

وَكَذَلِكَ يَسُدُّ عَنْهُ طُرُقَ الْمَعَاصِي‏.‏ فَإِنَّهَا طُرُقُ الْمَعَاطِبِ‏.‏ وَإِنْ كَانَ كَارِهًا، عِنَايَةً بِهِ، وَصِيَانَةً لَهُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ يَضَعَ عَنِ الْعَبْدِ عَوَارِضَ النَّقْصِ‏]‏

قَالَ‏:‏ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ‏:‏ أَنْ يَضَعَ عَنِ الْعَبْدِ عَوَارِضَ النَّقْصِ مِنْ دَرَجَاتِ الْمُرَادِ وَيُعَافِيَهُ مِنْ سِمَةِ اللَّائِمَةِ‏.‏ وَيُمَلِّكَهُ عَوَاقِبَ الْهَفَوَاتِ‏.‏ كَمَا فَعَلَ بِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ قَتَلَ الْخَيْلَ فَحَمَلَهُ عَلَى الرِّيحِ الرُّخَاءِ‏.‏ فَأَغْنَاهُ عَنِ الْخَيْلِ‏.‏ وَفَعَلَ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ أَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ‏.‏ وَلَمْ يَعْتِبْ عَلَيْهِ كَمَا عَتَبَ عَلَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَنُوحٍ، وَدَاوُدَ، وَيُونُسَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ‏.‏

وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا‏:‏ أَنَّ فِي الَّتِي قَبْلَهَا مَنْعًا مِنْ مُوَاقَعَةِ أَسْبَابِ الْجَفَاءِ اضْطِرَارًا‏.‏ وَفِي هَذِهِ‏:‏ إِذَا عَرَضَتْ لَهُ أَسْبَابُ النَّقِيصَةِ، الَّتِي يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا اللَّائِمَةَ، لَمْ يَعْتِبْهُ عَلَيْهَا وَلَمْ يَلُمْهُ‏.‏ وَهَذَا نَوْعٌ مِنَ الدَّلَالِ‏.‏ وَصَاحِبُهُ مِنْ ضَنَائِنِ اللَّهِ وَأَحْبَابِهِ‏.‏ فَإِنَّ الْحَبِيبَ يُسَامِحُ بِمَا لَا يُسَامِحُ بِهِ سِوَاهُ‏.‏ لِأَنَّ الْمَحَبَّةَ أَكْبَرُ شُفَعَائِهِ‏.‏ وَإِذَا هَفَا هَفْوَةً مَلَّكَهُ عَاقِبَتَهَا، بِأَنْ جَعَلَهَا سَبَبًا لِرِفْعَتِهِ، وَعُلُوِّ دَرَجَتِهِ‏.‏ فَيَجْعَلَ تِلْكَ الْهَفْوَةَ سَبَبًا لِتَوْبَةٍ نَصُوحٍ‏.‏ وَذُلٍّ خَاصٍّ، وَانْكِسَارٍ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ تَزِيدُ فِي قُرْبِهِ مِنْهُ أَضْعَافَ مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْهَفْوَةِ‏.‏ فَتَكُونُ تِلْكَ الْهَفْوَةُ أَنْفَعَ لَهُ مِنْ حَسَنَاتٍ كَثِيرَةٍ‏.‏ وَهَذَا مِنْ عَلَامَاتِ اعْتِنَاءِ اللَّهِ بِالْعَبْدِ، وَكَوْنِهِ مِنْ أَحْبَابِهِ وَحِزْبِهِ‏.‏

وَقَدِ اسْتَشْهَدَ الشَّيْخُ بِقِصَّةِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ أَلْهَتْهُ الْخَيْلُ عَنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ‏.‏ فَأَخَذَتْهُ الْغَضْبَةُ لِلَّهِ وَالْحَمِيَّةُ‏.‏ فَحَمَلَتْهُ عَلَى أَنْ مَسَحَ عَرَاقِيبَهَا وَأَعْنَاقَهَا بِالسَّيْفِ‏.‏ وَأَتْلَفَ مَالًا شَغَلَهُ عَنِ اللَّهِ فِي اللَّهِ‏.‏ فَعَوَّضَهُ اللَّهُ مِنْهُ‏:‏ أَنْ حَمَلَهُ عَلَى مَتْنِ الرِّيحِ‏.‏ فَمَلَّكَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَاقِبَةَ هَذِهِ الْهَفْوَةِ‏.‏ وَجَعَلَهَا سَبَبًا لِنَيْلِ تِلْكَ الْمَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ‏.‏

وَاسْتَشْهَدَ بِقِصَّةِ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ أَلْقَى الْأَلْوَاحَ- وَفِيهَا كَلَامُ اللَّهِ- عَنْ رَأْسِهِ، وَكَسَرَهَا، وَجَرَّ بِلِحْيَةِ أَخِيهِ‏.‏ وَهُوَ نَبِيٌّ مِثْلُهُ، وَلَمْ يُعَاتِبْهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا عَتَبَ عَلَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَكْلِ لُقْمَةٍ مِنَ الشَّجَرَةِ، وَعَلَى نُوحٍ فِي ابْنِهِ حِينَ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ‏.‏ وَعَلَى دَاوُدَ فِي شَأْنِ امْرَأَةِ أُورْبَا‏.‏ وَعَلَى يُونُسَ فِي شَأْنِ الْمُغَاضَبَةِ‏.‏

وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يَقُولُ‏:‏ وَكَذَلِكَ لَطَمَ مُوسَى عَيْنَ مَلَكِ الْمَوْتِ فَفَقَأَهَا‏.‏ وَلَمْ يَعْتِبْ عَلَيْهِ رَبُّهُ‏.‏ وَفِي لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ عَاتَبَ رَبَّهُ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏ إِذْ رَفَعَهُ فَوْقَهُ، وَرَفَعَ صَوْتَهُ بِذَلِكَ‏.‏ وَلَمْ يَعْتِبْهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ‏.‏ قَالَ‏:‏ لِأَنَّ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَامَ تِلْكَ الْمَقَامَاتِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي أَوْجَبَتْ لَهُ هَذَا الدِّلَالَ‏.‏ فَإِنَّهُ قَاوَمَ فِرْعَوْنَ أَكْبَرَ أَعْدَاءِ اللَّهِ تَعَالَى‏.‏ وَتَصَدَّى لَهُ وَلِقَوْمِهِ‏.‏ وَعَالَجَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ‏.‏ وَجَاهَدَ فِي اللَّهِ أَعْدَاءَ اللَّهِ أَشَدَّ الْجِهَادِ‏.‏ وَكَانَ شَدِيدَ الْغَضَبِ لِرَبِّهِ، فَاحْتَمَلَ لَهُ مَا لَمْ يَحْتَمِلْهُ لِغَيْرِهِ‏.‏

وَ ذُو النُّونِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْمَقَامِ‏:‏ سَجَنَهُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ مِنْ غَضَبِهِ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدَرًا‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ اجْتِبَاءُ الْحَقِّ عَبْدَهُ‏]‏

قَالَ‏:‏ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ‏:‏ اجْتِبَاءُ الْحَقِّ عَبْدَهُ مِنْ دَرَجَاتِ الْمُرَادِ‏.‏ وَاسْتِخْلَاصُهُ إِيَّاهُ بِخَالِصَتِهِ‏.‏ كَمَا ابْتَدَأَ مُوسَى، وَقَدْ خَرَجَ يَقْتَبِسُ نَارًا، فَاصْطَنَعَهُ لِنَفْسِهِ‏.‏ وَأَبْقَى مِنْهُ رَسْمًا مُعَارًا‏.‏

قُلْتُ‏:‏ الِاجْتِبَاءُ الِاصْطِفَاءُ، وَالْإِيثَارُ‏.‏ وَالتَّخْصِيصُ‏.‏ وَهُوَ افْتِعَالُ مِنْ جَبَيْتُ الشَّيْءَ‏:‏ إِذَا حُزْتَهُ وَأَحْرَزْتَهُ إِلَيْكَ‏.‏ كَجِبَايَةِ الْمَالِ وَغَيْرِهِ‏.‏

وَالِاصْطِنَاعُ أَيْضًا الِاصْطِفَاءُ، وَالِاخْتِيَارُ، يَعْنِي أَنَّهُ اصْطَفَى مُوسَى وَاسْتَخْلَصَهُ لِنَفْسِهِ‏.‏ وَجَعَلَهُ خَالِصًا لَهُ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ كَانَ مِنْ مُوسَى، وَلَا وَسِيلَةٍ‏.‏ فَإِنَّهُ خَرَجَ لِيَقْتَبِسَ النَّارَ‏.‏ فَرَجَعَ وَهُوَ كَلِيمُ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ‏.‏ وَأَكْرَمُ الْخَلْقِ عَلَيْهِ، ابْتِدَاءً مِنْهُ سُبْحَانَهُ، مِنْ غَيْرِ سَابِقَةِ اسْتِحْقَاقٍ، وَلَا تَقَدُّمِ وَسِيلَةٍ‏.‏ وَفِي مِثْلِ هَذَا قِيلَ‏:‏

أَيُّهَا الْعَبْدُ، كُنْ لِمَا لَسْتَ تَرْجُـو *** مِنْ صَلَاحٍ أَرْجَـى لِمَا أَنْتَ رَاجِــي

إِنَّ مُوسَى أَتَى لِيَقْبِسَ نَـــارًا *** مِنْ ضِيـاءٍ رَآهُ وَالْلَيْـــلُ دَاجِي

فَانْثَنَـى رَاجِعًا، وَقَـدْ كَلَّــمَهُ الْلَّــ *** ـهُ، وَنَـاجَاهُ وَهْوَ خَيْـرُ مُنَاجِـي

وَقَوْلُهُ‏:‏

وَأَبْقَى مِنْهُ رَسْمًا مُعَارًا‏.‏

يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالرَّسْمِ‏:‏ الْبَقِيَّةَ الَّتِي تَقَدَّمَ بِهَا عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏ وَرُفِعَ فَوْقَهُ بِدَرَجَاتٍ لِأَجْلِ بَقَائِهَا مِنْهُ‏.‏

وَيُحْتَمَلُ- وَهُوَ الْأَظْهَرُ- أَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ نَفْسِهِ، وَاصْطَنَعَهُ لِنَفْسِهِ‏.‏ وَاخْتَارَهُ مِنْ بَيْنِ الْعَالَمِينَ‏.‏ وَخَصَّهُ بِكَلَامِهِ، وَلَمْ يُبْقِ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ إِلَّا رَسْمًا مُجَرَّدًا يَصْحَبُ بِهِ الْخَلْقَ، وَتَجْرِي عَلَيْهِ فِيهِ أَحْكَامُ الْبَشَرِيَّةِ‏.‏ إِتْمَامًا لِحِكْمَتِهِ، وَإِظْهَارًا لِقُدْرَتِهِ‏.‏ فَهُوَ عَارِيَةٌ مَعَهُ‏.‏ فَإِذَا قَضَى مَا عَلَيْهِ‏:‏ اسْتَرَدَّ ذَلِكَ الرَّسْمَ‏.‏ وَجَعَلَهُ مِنْ مَالِهِ‏.‏ فَتَكَمَّلَتْ إِذْ ذَاكَ مَرْتَبَةُ الِاجْتِبَاءِ‏.‏ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، حَقِيقَةً وَرَسْمًا، وَرَجَعَتِ الْعَارِيَةُ إِلَى مَالِكِهَا الْحَقِّ، الَّذِي يُرْجَعُ إِلَيْهِ الْأَمْرُ كُلُّهُ‏.‏ فَكَمَا ابْتَدَأَتْ مِنْهُ عَادَتْ إِلَيْهِ‏.‏

وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ‏:‏ كَانَ فِي مَظْهَرِ الْجَلَالِ، وَلِهَذَا كَانَتْ شَرِيعَتُهُ شَرِيعَةَ جَلَالٍ وَقَهْرٍ‏.‏ أُمِرُوا بِقَتْلِ نُفُوسِهِمْ، وَحُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ، وَذَوَاتُ الظُّفُرِ وَغَيْرُهَا مِنَ الطَّيِّبَاتِ، وَحُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الْغَنَائِمُ‏.‏ وَعُجِّلَ لَهُمْ مِنَ الْعُقُوبَاتِ مَا عُجِّلَ وَحُمِّلُوا مِنَ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ، مَا لَمْ يَحْمِلْهُ غَيْرُهُمْ‏.‏

وَكَانَ مُوسَى- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَنْ أَعْظَمِ خَلْقِ اللَّهِ هَيْبَةً وَوَقَارًا‏.‏ وَأَشَدِّهِمْ بَأْسًا وَغَضَبًا لِلَّهِ، وَبَطْشًا بِأَعْدَاءِ اللَّهِ، وَكَانَ لَا يُسْتَطَاعُ النَّظَرُ إِلَيْهِ‏.‏

وَعِيسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ كَانَ فِي مَظْهَرِ الْجَمَالِ‏.‏ وَكَانَتْ شَرِيعَتُهُ شَرِيعَةَ فَضْلٍ وَإِحْسَانٍ‏.‏ وَكَانَ لَا يُقَاتِلُ، وَلَا يُحَارِبُ‏.‏ وَلَيْسَ فِي شَرِيعَتِهِ قِتَالٌ أَلْبَتَّةَ‏.‏ وَالنَّصَارَى يُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ دِينُهُمُ الْقِتَالَ‏.‏ وَهُمْ بِهِ عُصَاةٌ لِشَرْعِهِ‏.‏ فَإِنَّ الْإِنْجِيلَ يَأْمُرُهُمْ فِيهِ‏:‏ أَنَّ مِنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الْأَيْمَنِ، فَأَدِرْ لَهُ خَدَّكَ الْأَيْسَرَ‏.‏ وَمَنْ نَازَعَكَ ثَوْبَكَ‏.‏ فَأَعْطِهِ رِدَاءَكَ‏.‏ وَمَنْ سَخَّرَكَ مِيلًا‏.‏ فَامْشِ مَعَهُ مِيلَيْنِ‏.‏ وَنَحْوَ هَذَا‏.‏ وَلَيْسَ فِي شَرِيعَتِهِمْ مَشَقَّةٌ، وَلَا آصَارٌ، وَلَا أَغْلَالٌ، وَإِنَّمَا النَّصَارَى ابْتَدَعُوا تِلْكَ الرَّهْبَانِيَّةَ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ‏.‏ وَلَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِمْ‏.‏

وَأَمَّا نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ فَكَانَ فِي مَظْهَرِ الْكَمَالِ، الْجَامِعِ لِتِلْكَ الْقُوَّةِ وَالْعَدْلِ، وَالشِّدَّةِ فِي اللَّهِ‏.‏ وَهَذَا اللِّينِ وَالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ‏.‏ وَشَرِيعَتُهُ أَكْمَلُ الشَّرَائِعِ‏.‏ فَهُوَ نَبِيُّ الْكَمَالِ، وَشَرِيعَتُهُ شَرِيعَةُ الْكَمَالِ‏.‏ وَأُمَّتُهُ أَكْمَلُ الْأُمَمِ‏.‏ وَأَحْوَالُهُمْ وَمَقَامَاتُهُمْ أَكْمَلُ الْأَحْوَالِ وَالْمَقَامَاتِ‏.‏ وَلِذَلِكَ تَأْتِي شَرِيعَتُهُ بِالْعَدْلِ إِيجَابًا لَهُ وَفَرْضًا‏.‏ وَبِالْفَضْلِ نَدْبًا إِلَيْهِ وَاسْتِحْبَابًا‏.‏ وَبِالشِّدَّةِ فِي مَوْضِعِ الشِّدَّةِ‏.‏ وَبِاللِّينِ فِي مَوْضِعِ اللِّينِ‏.‏ وَوُضِعَ السَّيْفُ مَوْضِعَهُ‏.‏ وَوُضِعَ النَّدَى مَوْضِعَهُ‏.‏ فَيَذْكُرَ الظُّلْمَ‏.‏ وَيُحَرِّمَهُ‏.‏ وَالْعَدْلَ وَيُوجِبُهُ‏.‏ وَالْفَضْلَ وَيَنْدُبُ إِلَيْهِ فِي بَعْضِ آيَاتٍ‏.‏ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا‏}‏ فَهَذَا عَدْلٌ ‏{‏فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ‏}‏ فَهَذَا فَضْلٌ ‏{‏إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ‏}‏ فَهَذَا تَحْرِيمٌ لِلظُّلْمِ‏.‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ‏}‏ فَهَذَا إِيجَابٌ لِلْعَدْلِ، وَتَحْرِيمٌ لِلظُّلْمِ ‏{‏وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ‏}‏ نَدَبَ إِلَى الْفَضْلِ‏.‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ‏}‏ تَحْرِيمٌ لِلظُّلْمِ‏.‏ ‏{‏وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ‏}‏ عَدْلٌ‏.‏ ‏{‏وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ فَضْلٌ‏.‏

وَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ مَا حَرَّمَ عَلَى أُمَّتِهِ صِيَانَةً وَحِمْيَةً‏.‏

حَرَّمَ عَلَيْهِمْ كُلَّ خَبِيثٍ وَضَارٍّ، وَأَبَاحَ لَهُمْ كُلُّ طَيِّبٍ وَنَافِعٍ‏.‏ فَتَحْرِيمُهُ عَلَيْهِمْ رَحْمَةٌ، وَعَلَى مَنْ قَبْلَهُمْ لَمْ يَخْلُ مِنْ عُقُوبَةٍ‏.‏ وَهَدَاهُمْ لِمَا ضَلَّتْ عَنْهُ الْأُمَمُ قَبْلَهُمْ‏.‏ وَوَهَبَ لَهُمْ مِنْ عِلْمِهِ وَحِلْمِهِ‏.‏ وَجَعَلَهُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ‏.‏ وَكَمَّلَ لَهُمْ مِنَ الْمَحَاسِنِ مَا فَرَّقَهُ فِي الْأُمَمِ قَبْلَهُمْ‏.‏ كَمَا كَمَّلَ نَبِيَّهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَحَاسِنِ بِمَا فَرَّقَهُ فِي الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ‏.‏ وَكَمَّلَ فِي كِتَابِهِ مِنَ الْمَحَاسِنِ بِمَا فَرَّقَهَا فِي الْكُتُبِ قَبْلَهُ‏.‏ وَكَذَلِكَ فِي شَرِيعَتِهِ‏.‏

فَهَؤُلَاءِ الضَّنَائِنُ وَهُمُ الْمُجْتَبُونَ الْأَخْيَارُ‏.‏ كَمَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ‏}‏‏.‏ وَجَعَلَهُمْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ‏.‏ فَأَقَامَهُمْ فِي ذَلِكَ مَقَامَ الْأَنْبِيَاءِ الشَّاهِدِينَ عَلَى أُمَمِهِمْ‏.‏

وَتَفْصِيلُ تَفْضِيلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَخَصَائِصِهَا يَسْتَدْعِي سِفْرًا‏.‏ بَلْ أَسْفَارًا‏.‏ وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ‏.‏ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ مَنْزِلَةُ الْإِحْسَانِ

وَمِنْ مَنَازِلِ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ مَنْزِلَةُ الْإِحْسَانِ‏.‏

وَهِيَ لُبُّ الْإِيمَانِ، وَرُوحُهُ وَكَمَالُهُ، وَهَذِهِ الْمَنْزِلَةُ تَجْمَعُ جَمِيعَ الْمَنَازِلِ‏.‏ فَجَمِيعُهَا مُنْطَوِيَةٌ فِيهَا‏.‏ وَكُلُّ مَا قِيلَ مِنْ أَوَّلِ الْكِتَابِ إِلَى هَاهُنَا فَهُوَ مِنَ الْإِحْسَانِ‏.‏

قَالَ صَاحِبُ ‏"‏ الْمَنَازِلِ ‏"‏ رَحِمَهُ اللَّهُ- وَقَدِ اسْتَشْهَدَ عَلَى هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ‏}‏‏.‏

فَالْإِحْسَانُ‏:‏ جَامِعٌ لِجَمِيعِ أَبْوَابِ الْحَقَائِقِ‏.‏ وَهُوَ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ‏.‏

أَمَّا الْآيَةُ‏:‏ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْمُفَسِّرُونَ‏:‏ هَلْ جَزَاءُ مَنْ قَالَ‏:‏ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَعَمَلَ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا الْجَنَّةُ‏؟‏‏.‏

وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَرَأَ ‏{‏هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ‏}‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ‏؟‏ قَالُوا‏:‏ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ‏:‏ يَقُولُ‏:‏ هَلْ جَزَاءُ مَنْ أَنْعَمْتُ عَلَيْهِ بِالتَّوْحِيدِ إِلَّا الْجَنَّةُ‏؟‏‏.‏

وَأَمَّا الْحَدِيثُ‏:‏ فَإِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْحُضُورِ مَعَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏.‏ وَمُرَاقَبَتِهِ الْجَامِعَةِ لِخَشْيَتِهِ، وَمَحَبَّتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ، وَالْإِخْلَاصِ لَهُ، وَلِجَمِيعِ مَقَامَاتِ الْإِيمَانِ‏.‏

‏[‏دَرَجَاتُ الْإِحْسَانِ‏]‏

‏[‏الدَّرَجَةُ الْأَوْلَى الْإِحْسَانُ فِي الْقَصْدِ بِتَهْذِيبِهِ عِلْمًا‏]‏

قَالَ‏:‏ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ دَرَجَاتُ الْإِحْسَانِ‏.‏ الدَّرَجَةُ الْأُولَى‏:‏ الْإِحْسَانُ فِي الْقَصْدِ بِتَهْذِيبِهِ عِلْمًا، مِنْ دَرَجَاتِ الْإِحْسَانِ وَإِبْرَامِهِ عَزْمًا، وَتَصْفِيَتِهِ حَالًا‏.‏

يَعْنِي‏:‏ إِحْسَانُ الْقَصْدِ يَكُونُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ‏.‏

أَحَدُهَا‏:‏ تَهْذِيبُهُ عِلْمًا، بِأَنْ يَجْعَلَهُ تَابِعًا لِلْعِلْمِ عَلَى مُقْتَضَاهُ مُهَذَّبًا بِهِ‏.‏ مُنَقًّى مِنْ شَوَائِبِ الْحُظُوظِ، فَلَا يَقْصِدُ إِلَّا مَا يَجُوزُ فِي الْعِلْمِ‏.‏ وَالْعِلْمُ هُوَ اتِّبَاعُ الْأَمْرِ وَالشَّرْعِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ إِبْرَامُهُ عَزْمًا‏.‏ وَالْإِبْرَامُ‏:‏ الْإِحْكَامُ وَالْقُوَّةُ‏.‏ أَيْ يُقَارِنُهُ عَزْمٌ يُمْضِيهِ، وَلَا يَصْحَبُهُ فُتُورٌ وَتَوَانٍ يُضْعِفُهُ وَيُوهِنُهُ‏.‏

الثَّالِثُ‏:‏ تَصْفِيَتُهُ حَالًا‏.‏

أَيْ يَكُونُ حَالُ صَاحِبِهِ صَافِيًا مِنَ الْأَكْدَارِ وَالشَّوَائِبِ، الَّتِي تَدُلُّ عَلَى كَدَرِ قَصْدِهِ‏.‏ فَإِنَّ الْحَالَ مَظْهَرُ الْقَصْدِ وَثَمَرَتُهُ‏.‏ وَهُوَ أَيْضًا مَادَّتُهُ وَبَاعِثُهُ‏.‏ فَكُلٌّ مِنْهُمَا يَنْفَعِلُ عَنِ الْآخَرِ‏.‏ فَصَفَاؤُهُ وَتَخْلِيصُهُ مِنْ تَمَامِ صَفَاءِ الْآخَرِ وَتَخْلِيصِهِ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ الْإِحْسَانُ فِي الْأَحْوَالِ‏]‏

قَالَ‏:‏ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ‏:‏ الْإِحْسَانُ فِي الْأَحْوَالِ مِنْ دَرَجَاتِ الْإِحْسَانِ‏.‏ وَهُوَ أَنْ تُرَاعِيَهَا غَيْرَةً‏.‏ وَتَسْتُرَهَا تَظَرُّفًا، وَتُصَحِّحَهَا تَحَقِيقًا‏.‏

يُرِيدُ بِمُرَاعَاتِهَا‏:‏ حِفْظَهَا وَصَوْنَهَا، غَيْرَةً عَلَيْهَا أَنْ تَحُولَ‏.‏ فَإِنَّهَا تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ‏.‏ فَإِنْ لَمْ يَرْعَ حُقُوقَهَا حَالَتْ‏.‏ وَمُرَاعَاتُهَا‏:‏ بِدَوَامِ الْوَفَاءِ، وَتَجَنُّبِ الْجَفَاءِ‏.‏

وَيُرَاعِيهَا أَيْضًا بِإِكْرَامِ نُزُلِهَا‏.‏ فَإِنَّهَا ضَيْفٌ‏.‏ وَالضَّيْفُ إِنْ لَمْ تُكَرِمْ نُزُلَهُ ارْتَحَلَ‏.‏

وَيُرَاعِيهَا أَيْضًا بِضَبْطِهَا مَلَكَةً‏.‏ وَشَدِّ يَدِهِ عَلَيْهَا، وَأَنْ لَا يَسْمَحَ بِهَا لِقَاطِعِ طَرِيقٍ وَلَا نَاهِبٍ‏.‏

وَيُرَاعِيهَا أَيْضًا‏:‏ بِالِانْقِيَادِ إِلَى حُكْمِهَا، وَالْإِذْعَانِ لِسُلْطَانِهَا إِذَا وَافَقَ الْأَمْرَ‏.‏

وَيُرَاعِيهَا أَيْضًا‏:‏ بِسَتْرِهَا تَظَرُّفًا، وَهُوَ أَنْ يَسْتُرَهَا عَنِ النَّاسِ مَا أَمْكَنَهُ‏.‏ لِئَلَّا يَعْلَمُوا بِهَا‏.‏ وَلَا يُظْهِرَهَا إِلَّا لِحُجَّةٍ‏.‏ أَوْ حَاجَةٍ، أَوْ مَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ‏.‏ فَإِنَّ فِي إِظْهَارِهَا بِدُونِ ذَلِكَ آفَاتٍ عَدِيدَةً‏.‏ مَعَ تَعْرِيضِهَا لِلُّصُوصِ وَالسُّرَّاقِ وَالْمُغِيرِينَ‏.‏

وَإِظْهَارُ الْحَالِ لِلنَّاسِ عِنْدَ الصَّادِقِينَ‏:‏ حُمْقٌ وَعَجْزٌ‏.‏ وَهُوَ مِنْ حُظُوظِ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ‏.‏ وَأَهْلُ الصِّدْقِ وَالْعَزْمِ لَهَا أَسْتَرُ، وَأَكْتَمُ مِنْ أَرْبَابِ الْكُنُوزِ مِنَ الْأَمْوَالِ لِأَمْوَالِهِمْ، حَتَّى إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُظْهِرُ أَضْدَادَهَا نَفْيًا وَجَحْدًا‏.‏ وَهُمْ أَصْحَابُ الْمَلَامَتِيَّةِ، وَلَهُمْ طَرِيقَةٌ مَعْرُوفَةٌ‏.‏ وَكَانَ شَيْخُ هَذِهِ الطَّائِفَةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَنَازِلَ‏.‏

وَاتَّفَقَتِ الطَّائِفَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَطْلَعَ النَّاسَ عَلَى حَالِهِ مَعَ اللَّهِ‏:‏ فَقَدْ دَنَّسَ طَرِيقَتَهُ‏.‏ إِلَّا لِحُجَّةٍ أَوْ حَاجَةٍ أَوْ ضَرُورَةٍ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ وَتَصْحِيحُهَا تَحْقِيقًا

أَيْ يَجْتَهِدُ فِي تَحْقِيقِ أَحْوَالِهِ، وَتَصْحِيحِهَا وَتَخْلِيصِهَا‏.‏ فَإِنَّ الْحَالَ قَدْ يَمْتَزِجُ بِحَقٍّ وَبَاطِلٍ‏.‏ وَلَا يُمَيِّزُهُ إِلَّا أُولُو الْبَصَائِرِ وَالْعِلْمِ‏.‏

وَأَهْلُ هَذِهِ الطَّرِيقِ يَقُولُونَ‏:‏ إِنَّ الْوَارِدَ الَّذِي يَبْتَدِئُ الْعَبْدُ مِنْ جَانِبِهِ الْأَيْمَنِ وَالْهَوَاتِفَ وَالْخِطَابَ‏:‏ يَكُونُ فِي الْغَالِبِ حَقًّا‏.‏ وَالَّذِي يَبْتَدِئُ مِنَ الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ‏:‏ يَكُونُ فِي الْغَالِبِ بَاطِلًا وَكَذِبًا‏.‏ فَإِنَّ أَهْلَ الْيَمِينِ‏:‏ هُمْ أَهْلُ الْحَقِّ‏.‏ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَأْخُذُونَ كُتُبَهُمْ‏.‏ وَنُورُهُمُ الظَّاهِرُ عَلَى الصِّرَاطِ بِأَيْمَانِهِمْ‏.‏ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ، وَطَهُورِهِ وَشَأْنِهِ كُلِّهِ‏.‏ وَاللَّهُ وَمَلَائِكَتُهُ يُصَلُّونَ عَلَى مَيَامِنِ الصُّفُوفِ‏.‏ وَأَخْبَرَ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ‏.‏ وَحَظُّهُ مِنِ ابْنِ آدَمَ جِهَةُ الشِّمَالِ‏.‏ وَلِهَذَا تَكُونُ الْيَدُ الشِّمَالِ لِلِاسْتِجْمَارِ، وَإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ وَالْأَذَى‏.‏ وَيُبْدَأُ بِالرِّجْلِ الشِّمَالِ عِنْدَ دُخُولِ الْخَلَاءِ‏.‏

وَمِنَ الْفُرْقَانِ أَيْضًا‏:‏ أَنَّ كُلَّ وَارِدٍ يَبْقَى الْإِنْسَانُ بَعْدَ انْفِصَالِهِ نَشِيطًا مَسْرُورًا نَشْوَانًا‏:‏ فَإِنَّهُ وَارِدٌ مَلَكِيٌّ، وَكُلُّ وَارِدٍ يُبْقِي الْإِنْسَانَ بَعْدَ انْفِصَالِهِ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلَانَ، ثَقِيلَ الْأَعْضَاءِ وَالرُّوحِ، يَجْنَحُ إِلَى فُتُورٍ- فَهُوَ وَارِدٌ شَيْطَانِيٌّ‏.‏

وَمِنَ الْفُرْقَانِ أَيْضًا‏:‏ أَنَّ كُلَّ وَارِدٍ أَعْقَبَ صَاحِبُهُ تَقَدُّمًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالدَّارِ الْآخِرَةِ، وَحُضُورًا فِيهَا، حَتَّى كَأَنَّهُ يُشَاهِدُ الْجَنَّةَ قَدْ أُزْلِفَتْ، وَالْجَحِيمَ قَدْ سُعِّرَتْ- فَهُوَ إِلَهِيٌّ مَلَكِيٌّ، وَخِلَافُهُ شَيْطَانِيٌّ نَفْسَانِيٌّ‏.‏

وَمِنَ الْفُرْقَانِ أَيْضًا‏:‏ أَنَّ كُلَّ وَارِدٍ كَانَ سَبَبُهُ النَّصِيحَةَ فِي امْتِثَالِ الْأَمْرِ، وَالْإِخْلَاصِ وَالصِّدْقِ فِيهِ- فَهُوَ إِلَهِيٌّ مَلَكِيٌّ‏.‏ وَإِلَّا فَهُوَ شَيْطَانِيٌّ‏.‏

وَمِنَ الْفُرْقَانِ أَيْضًا‏:‏ أَنَّ كُلَّ وَارِدٍ اسْتَنَارَ بِهِ الْقَلْبُ، وَانْشَرَحَ لَهُ الصَّدْرُ، وَقَوِيَ بِهِ الْقَلْبُ- إِلَهِيٌّ مَلَكِيٌّ‏.‏ وَإِلَّا فَهُوَ شَيْطَانِيٌّ‏.‏

وَمِنَ الْفُرْقَانِ أَيْضًا‏:‏ أَنَّ كُلَّ وَارِدٍ جَمَعَكَ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ مِنْهُ‏.‏ وَكُلَّ وَارِدٍ فَرَّقَكَ عَنْهُ، وَأَخَذَكَ عَنْهُ‏:‏ فَمِنَ الشَّيْطَانِ‏.‏

وَمِنَ الْفُرْقَانِ أَيْضًا‏:‏ أَنَّ الْوَارِدَ الْإِلَهِيِّ لَا يُصْرَفُ إِلَّا فِي قُرْبَةٍ وَطَاعَةٍ، وَلَا يَكُونُ سَبَبُهُ إِلَّا قُرْبَةً وَطَاعَةً، فَمُسْتَخْرِجُهُ الْأَمْرُ‏.‏ وَمُصَرِّفُهُ الْأَمْرُ، وَالشَّيْطَانِيُّ بِخِلَافِهِ‏.‏

وَمِنَ الْفُرْقَانِ أَيْضًا‏:‏ أَنَّ الْوَارِدَ الرَّحْمَانِيَّ لَا يَتَنَاقَضُ، وَلَا يَتَفَاوَتُ وَلَا يَخْتَلِفُ‏.‏ بَلْ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَالشَّيْطَانِيَّ بِخِلَافِهِ يُكَذِّبُ بَعْضُهُ بَعْضًا‏.‏ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ الْإِحْسَانُ فِي الْوَقْتِ‏]‏

قَالَ‏:‏ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ‏:‏ الْإِحْسَانُ فِي الْوَقْتِ مِنْ دَرَجَاتِ الْإِحْسَانِ‏.‏ وَهُوَ أَنْ لَا تُزَايِلَ الْمُشَاهَدَةَ أَبَدًا‏.‏ وَلَا تَخْلِطَ بِهِمَّتِكَ أَحَدًا‏.‏ وَتَجْعَلَ هِجْرَتَكَ إِلَى الْحَقِّ سَرْمَدًا‏.‏

أَيْ لَا تُفَارِقُ حَالَ الشُّهُودِ‏.‏ وَهَذَا إِنَّمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَهْلُ التَّمَكُّنِ الَّذِينَ ظَفِرُوا بِنُفُوسِهِمْ وَقَطَعُوا الْمَسَافَاتِ الَّتِي بَيْنَ النَّفْسِ وَبَيْنَ الْقَلْبِ‏.‏ وَالْمَسَافَاتِ الَّتِي بَيْنَ الْقَلْبِ وَبَيْنَ اللَّهِ، بِمُجَاهِدَةِ الْقُطَّاعِ الَّتِي عَلَى تِلْكَ الْمَسَافَاتِ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ وَلَا تَخْلِطَ بِهِمَّتِكَ أَحَدًا‏.‏

يَعْنِي‏:‏ أَنْ تُعَلِّقَ هِمَّتَكَ بِالْحَقِّ وَحْدَهُ‏.‏ وَلَا تُعَلِّقَ هِمَّتَكَ بِأَحَدٍ غَيْرِهِ‏.‏ فَإِنَّ ذَلِكَ شِرْكٌ فِي طَرِيقِ الصَّادِقِينَ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ وَأَنْ تَجْعَلَ هِجْرَتَكَ إِلَى الْحَقِّ سَرْمَدًا‏.‏

يَعْنِي‏:‏ أَنَّ كُلَّ مُتَوَجِّهٍ إِلَى اللَّهِ بِالصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ، فَإِنَّهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ إِلَيْهِ‏.‏ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْ هَذِهِ الْهِجْرَةِ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَصْحَبَهَا سَرْمَدًا‏.‏ حَتَّى يَلْحَقَ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏.‏

فَمَا هِيَ إِلَّا سَـاعَةٌ ثُمَّ تَنْقَـضِي *** وَيَحْمَدُ غِـبَّ السَّيْـرِ مَنْ هُوَ سَائِـرٌ

وَلِلَّهِ عَلَى كُلِّ قَلْبٍ هِجْرَتَانِ‏.‏ وَهُمَا فَرْضٌ لَازِمٌ لَهُ عَلَى الْأَنْفَاسِ‏:‏

هِجْرَةٌ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِالتَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ، وَالْإِنَابَةِ وَالْحُبِّ، وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَالْعُبُودِيَّةِ‏.‏

وَهِجْرَةٌ إِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ بِالتَّحْكِيمِ لَهُ وَالتَّسْلِيمِ وَالتَّفْوِيضِ، وَالِانْقِيَادِ لِحُكْمِهِ، وَتَلَقِّي أَحْكَامِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ مِنْ مِشْكَاتِهِ‏.‏ فَيَكُونُ تَعَبُّدُهُ بِهِ أَعْظَمَ مِنْ تَعَبُّدِ الرَّكْبِ بِالدَّلِيلِ الْمَاهِرِ فِي ظُلَمِ اللَّيْلِ، وَمَتَاهَاتِ الطَّرِيقِ‏.‏

فَمَا لَمْ يَكُنْ لِقَلْبِهِ هَاتَانِ الْهِجْرَتَانِ فَلْيَحْثُ عَلَى رَأْسِهِ الرَّمَادَ‏.‏ وَلْيُرَاجِعِ الْإِيمَانَ مِنْ أَصْلِهِ‏.‏ فَيَرْجِعَ وَرَاءَهُ لِيَقْتَبِسَ نُورًا، قَبْلَ أَنْ يُحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَيُقَالَ لَهُ ذَلِكَ عَلَى الصِّرَاطِ مِنْ وَرَاءِ السُّورِ‏.‏ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ مَنْزِلَةُ الْعِـلْمِ

وَمِنْ مَنَازِلِ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ مَنْزِلَةُ الْعِلْمِ‏.‏

وَهَذِهِ الْمَنْزِلَةُ إِنْ لَمْ تَصْحَبِ السَّالِكَ مِنْ أَوَّلِ قَدَمٍ يَضَعُهُ فِي الطَّرِيقِ إِلَى آخِرِ قَدَمٍ يَنْتَهِي إِلَيْهِ‏:‏ فَسُلُوكُهُ عَلَى غَيْرِ طَرِيقٍ‏.‏ وَهُوَ مَقْطُوعٌ عَلَيْهِ طَرِيقُ الْوُصُولِ، مَسْدُودٌ عَلَيْهِ سُبُلُ الْهُدَى وَالْفَلَاحِ، مُغْلَقَةٌ عَنْهُ أَبْوَابُهَا‏.‏ وَهَذَا إِجْمَاعٌ مِنَ الشُّيُوخِ الْعَارِفِينَ‏.‏ وَلَمْ يَنْهَ عَنْ الْعِلْمِ حَقِيقَتُهُ وَالْأَقْوَالُ فِيهِ إِلَّا قُطَّاعُ الطَّرِيقِ مِنْهُمْ، وَنُوَّابُ إِبْلِيسَ وَشُرَطُهُ‏.‏

قَالَ سَيِّدُ الطَّائِفَةِ وَشَيْخُهُمُ الْجُنَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ‏:‏ الطُّرُقُ كُلُّهَا مَسْدُودَةٌ عَلَى الْخَلْقِ إِلَّا عَلَى مَنِ اقْتَفَى آثَارَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَقَالَ‏:‏ مَنْ لَمْ يَحْفَظِ الْقُرْآنَ وَيَكْتُبِ الْحَدِيثَ، لَا يُقْتَدَى بِهِ فِي هَذَا الْأَمْرِ، لِأَنَّ عِلْمَنَا مُقَيَّدٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ‏.‏

وَقَالَ‏:‏ مَذْهَبُنَا هَذَا مُقَيَّدٌ بِأُصُولِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ‏.‏

وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ رَحِمَهُ اللَّهُ‏:‏ مَنْ لَمْ يَزِنْ أَفْعَالَهُ وَأَحْوَالَهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ‏.‏ وَلَمْ يَتَّهِمْ خَوَاطِرَهُ‏.‏ فَلَا يُعَدُّ فِي دِيوَانِ الرِّجَالِ‏.‏

وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ‏:‏ رُبَّمَا يَقَعُ فِي قَلْبِيَ النُّكْتَةُ مِنْ نُكَتِ الْقَوْمِ أَيْامًا‏.‏ فَلَا أَقْبَلُ مِنْهُ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ‏:‏ الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ‏.‏

وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَحِمَهُ اللَّهُ‏:‏ كُلُّ فِعْلٍ يَفْعَلُهُ الْعَبْدُ بِغَيْرِ اقْتِدَاءٍ- طَاعَةً كَانَ أَوْ مَعْصِيَةً- فَهُوَ عَيْشُ النَّفْسِ، وَكُلُّ فِعْلٍ يَفْعَلُهُ الْعَبْدُ بِالِاقْتِدَاءِ‏:‏ فَهُوَ عَذَابٌ عَلَى النَّفْسِ‏.‏

وَقَالَ السَّرِيُّ‏:‏ التَّصَوُّفُ اسْمٌ لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ‏:‏ لَا يُطْفِئُ نُورَ مَعْرِفَتِهِ نُورُ وَرَعِهِ، وَلَا يَتَكَلَّمُ بِبَاطِنٍ فِي عِلْمٍ يَنْقُضُهُ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْكِتَابِ، وَلَا تَحْمِلُهُ الْكَرَامَاتُ عَلَى هَتْكِ أَسْتَارِ مَحَارِمِ اللَّهِ‏.‏

وَقَالَ أَبُو يَزِيدَ‏:‏ عَمِلْتُ فِي الْمُجَاهَدَةِ ثَلَاثِينَ سَنَةً، فَمَا وَجَدْتُ شَيْئًا أَشَدَّ عَلَيَّ مِنَ الْعِلْمِ وَمُتَابَعَتِهِ، وَلَوْلَا اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ لَبَقِيتُ، وَاخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ رَحْمَةٌ، إِلَّا فِي تَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ‏.‏

وَقَالَ مَرَّةً لِخَادِمِهِ‏:‏ قُمْ بِنَا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي قَدْ شَهَّرَ نَفْسَهُ بِالصَّلَاحِ لِنَزُورَهُ، فَلَمَّا دَخَلَا عَلَيْهِ الْمَسْجِدَ تَنَخَّعَ‏.‏ ثُمَّ رَمَى بِهَا نَحْوَ الْقِبْلَةِ، فَرَجَعَ وَلَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِ‏.‏ وَقَالَ‏:‏ هَذَا غَيْرُ مَأْمُونٍ عَلَى أَدَبٍ مِنْ آدَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَيْفَ يَكُونُ مَأْمُونًا عَلَى مَا يَدَّعِيهِ‏؟‏

وَقَالَ‏:‏ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَكْفِيَنِي مُؤْنَةَ النِّسَاءِ‏.‏ ثُمَّ قُلْتُ‏:‏ كَيْفَ يَجُوزُ لِي أَنْ أَسْأَلَ اللَّهَ هَذَا‏؟‏ وَلَمْ يَسْأَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏؟‏ وَلَمْ أَسْأَلْهُ‏.‏ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ كَفَانِي مُؤْنَةَ النِّسَاءِ، حَتَّى لَا أُبَالِيَ اسْتَقْبَلَتْنِي امْرَأَةٌ أَوْ حَائِطٌ‏.‏

وَقَالَ‏:‏ لَوْ نَظَرْتُمْ إِلَى رَجُلٍ أُعْطِيَ مِنَ الْكَرَامَاتِ إِلَى أَنْ يَرْتَفِعَ فِي الْهَوَاءِ، فَلَا تَغْتَرُّوا بِهِ، حَتَّى تَنْظُرُوا كَيْفَ تَجِدُونَهُ عِنْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَحِفْظِ الْحُدُودِ، وَأَدَاءِ الشَّرِيعَةِ‏؟‏

وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحِوَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ‏:‏ مِنْ عَمِلَ عَمَلًا بِلَا اتِّبَاعِ سُنَّةٍ، فَبَاطِلٌ عَمَلُهُ‏.‏

وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّيْسَابُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ‏:‏ الصُّحْبَةُ مَعَ اللَّهِ‏:‏ بِحُسْنِ الْأَدَبِ، وَدَوَامِ الْهَيْبَةِ وَالْمُرَاقَبَةِ، وَالصُّحْبَةُ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ بِاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ، وَلُزُومِ ظَاهِرِ الْعِلْمِ‏.‏ وَمَعَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ‏:‏ بِالِاحْتِرَامِ وَالْخِدْمَةِ‏.‏ وَمَعَ الْأَهْلِ‏:‏ بِحُسْنِ الْخُلُقِ‏.‏ وَمَعَ الْإِخْوَانِ‏:‏ بِدَوَامِ الْبِشْرِ‏.‏ مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا‏.‏ وَمَعَ الْجُهَّالِ‏:‏ بِالدُّعَاءِ لَهُمْ وَالرَّحْمَةِ‏.‏

زَادَ غَيْرُهُ‏:‏ وَمَعَ الْحَافِظِينَ‏:‏ بِإِكْرَامِهِمَا وَاحْتِرَامِهِمَا، وَإِمْلَائِهِمَا مَا يَحْمَدَانِكَ عَلَيْهِ‏.‏ وَمَعَ النَّفْسِ‏:‏ بِالْمُخَالَفَةِ‏.‏ وَمَعَ الشَّيْطَانِ‏:‏ بِالْعَدَاوَةِ‏.‏

وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ أَيْضًا‏:‏ مَنْ أَمَّرَ السُّنَّةَ عَلَى نَفْسِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا‏:‏ نَطَقَ بِالْحِكْمَةِ، وَمَنْ أَمَّرَ الْهَوَى عَلَى نَفْسِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا‏:‏ نَطَقَ بِالْبِدْعَةِ‏.‏ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا‏}‏‏.‏

وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ النُّورِيُّ‏:‏ مَنْ رَأَيْتُمُوهُ يَدَّعِي مَعَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَالَةً تُخْرِجُهُ عَنْ حَدِّ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ فَلَا تَقْرَبُوا مِنْهُ‏.‏

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْبَلْخِيُّ مِنْ مَشَايِخِ الْقَوْمِ الْكِبَارِ‏:‏ ذَهَابُ الْإِسْلَامِ مِنْ أَرْبَعَةٍ‏:‏ لَا يَعْمَلُونَ بِمَا يَعْلَمُونَ، وَيَعْمَلُونَ بِمَا لَا يَعْلَمُونَ، وَلَا يَتَعَلَّمُونَ مَا يَعْمَلُونَ، وَيَمْنَعُونَ النَّاسَ مِنَ التَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ‏.‏

وَقَالَ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ الْمَكِّيُّ‏:‏ الْعِلْمُ قَائِدٌ‏.‏ وَالْخَوْفُ سَائِقٌ‏.‏ وَالنَّفْسُ حَرُونٌ بَيْنَ ذَلِكَ، جُمُوحٌ خَدَّاعَةٌ رَوَّاغَةٌ‏.‏ فَاحْذَرْهَا وَرَاعِهَا بِسِيَاسَةِ الْعِلْمِ‏.‏ وَسُقْهَا بِتَهْدِيدِ الْخَوْفِ‏:‏ يَتِمُّ لَكَ مَا تُرِيدُ‏.‏

وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخَرَّازُ‏:‏ كُلُّ بَاطِنٍ يُخَالِفُهُ الظَّاهِرُ فَهُوَ بَاطِلٌ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ‏:‏ مَنْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ آدَابَ السُّنَّةِ نَوَّرَ اللَّهُ قَلْبَهُ بِنُورِ الْمَعْرِفَةِ‏.‏ لَا مَقَامَ أَشْرَفَ مِنْ مَقَامِ مُتَابَعَةِ الْحَبِيبِ فِي أَوَامِرِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَخْلَاقِهِ‏.‏

وَقَالَ‏:‏ كُلُّ مَا سَأَلْتَ عَنْهُ فَاطْلُبْهُ فِي مَفَازَةِ الْعِلْمِ‏.‏ فَإِنْ لَمْ تَجِدْهُ فَفِي مَيْدَانِ الْحِكْمَةِ‏.‏ فَإِنْ لَمْ تَجِدْهُ فَزِنْهُ بِالتَّوْحِيدِ‏.‏ فَإِنْ لَمْ تَجِدْهُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ فَاضْرِبْ بِهِ وَجْهَ الشَّيْطَانِ‏.‏

وَأُلْقِيَ بَنَانٌ الْحَمَّالُ بَيْنَ يَدَيِ السَّبُعِ‏.‏ فَجَعَلَ السَّبُعُ يَشَمُّهُ لَا يَضُرُّهُ فَلَمَّا أُخْرِجَ قِيلَ لَهُ‏:‏ مَا الَّذِي كَانَ فِي قَلْبِكَ حِينَ شَمَّكَ السَّبُعُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ كُنْتُ أَتَفَكَّرُ فِي اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي سُؤْرِ السِّبَاعِ‏.‏

وَقَالَ أَبُو حَمْزَةَ الْبَغْدَادِيُّ- مِنْ أَكَابِرِ الشُّيُوخِ‏.‏

وَكَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَقُولُ لَهُ فِي الْمَسَائِلِ‏:‏ مَا تَقُولُ يَا صُوفِيُّ- مَنْ عَلِمَ طَرِيقَ الْحَقِّ سَهُلَ عَلَيْهِ سُلُوكُهُ‏.‏ وَلَا دَلِيلَ عَلَى الطَّرِيقِ إِلَى اللَّهِ إِلَّا مُتَابَعَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَحْوَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ‏.‏

وَمَرَّ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْوَاسِطِيُّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْجَامِعِ‏.‏ فَانْقَطَعَ شِسْعُ نَعْلِهِ‏.‏ فَأَصْلَحَهُ لَهُ رَجُلٌ صَيْدَلَانِيٌّ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ تَدْرِي لِمَ انْقَطَعَ شِسْعُ نَعْلِي‏؟‏ فَقُلْتُ‏:‏ لَا‏.‏ فَقَالَ‏:‏ لِأَنِّي مَا اغْتَسَلْتُ لِلْجُمُعَةِ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ هَاهُنَا حَمَّامٌ تَدْخُلُهُ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ نَعَمْ‏.‏ فَدَخَلَ وَاغْتَسَلَ‏.‏

وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الرَّقِّيُّ، مِنْ أَقْرَانِ الْجُنَيْدِ‏:‏ عَلَامَةُ مَحَبَّةِ اللَّهِ‏:‏ إِيثَارُ طَاعَتِهِ، وَمُتَابَعَةُ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَقَالَ أَبُو يَعْقُوبَ النَّهْرَجُورِيُّ‏:‏ أَفْضَلُ الْأَحْوَالِ‏:‏ مَا قَارَنَ الْعِلْمَ‏.‏

وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ النَّصْرَابَاذِيُّ شَيْخُ خُرَاسَانَ فِي وَقْتِهِ‏:‏ أَصْلُ التَّصَوُّفِ مُلَازَمَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ‏.‏ وَتَرْكُ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ‏.‏ وَتَعْظِيمُ كَرَامَاتِ الْمَشَايِخِ، وَرُؤْيَةُ أَعْذَارِ الْخَلْقِ، وَالْمُدَاوَمَةُ عَلَى الْأَوْرَادِ، وَتَرْكُ ارْتِكَابِ الرُّخَصِ وَالتَّأْوِيلَاتِ‏.‏

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الطَّمِسْتَانِيُّ- مِنْ كِبَارِ شُيُوخِ الطَّائِفَةِ-‏:‏ الطَّرِيقُ وَاضِحٌ وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ قَائِمٌ بَيْنَ أَظْهُرِنَا‏.‏ وَفَضْلُ الصَّحَابَةِ مَعْلُومٌ، لِسَبْقِهِمْ إِلَى الْهِجْرَةِ وَلِصُحْبَتِهِمْ، فَمَنْ صَحِبَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَتَغَرَّبَ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنِ الْخَلْقِ، وَهَاجَرَ بِقَلْبِهِ إِلَى اللَّهِ‏:‏ فَهُوَ الصَّادِقُ الْمُصِيبُ‏.‏

وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ نُجَيْدٍ‏:‏ كُلُّ حَالٍ لَا يَكُونُ عَنْ نَتِيجَةِ عِلْمٍ فَإِنَّ ضَرَرَهُ عَلَى صَاحِبِهِ أَكْثَرُ مِنْ نَفْعِهِ‏.‏

وَقَالَ‏:‏ التَّصَوُّفُ‏:‏ الصَّبْرُ تَحْتَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي‏.‏

وَكَانَ بَعْضُ أَكَابِرِ الشُّيُوخِ الْمُتَقَدِّمِينَ يَقُولُ‏:‏ يَا مَعْشَرَ الصُّوفِيَّةِ، لَا تُفَارِقُوا السَّوَادَ فِي الْبَيَاضِ تَهْلِكُوا‏.‏

‏[‏شَرَفُ الْعِلْمِ وَفَضْلُهُ‏]‏

وَأَمَّا الْكَلِمَاتُ الَّتِي تُرْوَى عَنْ بَعْضِهِمْ‏:‏ مِنَ التَّزْهِيدِ فِي الْعِلْمِ، شَرَفِهِ وَفَضْلِهِ وَالِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ‏.‏ كَقَوْلِ مَنْ قَالَ‏:‏ نَحْنُ نَأْخُذُ عِلْمَنَا مِنَ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَأَنْتُمْ تَأْخُذُونَهُ مِنْ حَيٍّ يَمُوتُ‏.‏

وَقَوْلِ الْآخَرِ- وَقَدْ قِيلَ لَهُ‏:‏ أَلَا تَرْحَلُ حَتَّى تَسْمَعَ مِنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ- فَقَالَ‏:‏ مَا يَصْنَعُ بِالسَّمَاعِ مِنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، مَنْ يَسْمَعُ مِنَ الْخَلَّاقِ‏؟‏

وَقَوْلِ الْآخَرِ‏:‏ الْعِلْمُ حِجَابٌ بَيْنَ الْقَلْبِ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏.‏

وَقَوْلِ الْآخَرِ‏:‏ لَنَا عِلْمُ الْحَرْفِ‏.‏ وَلَكُمْ عِلْمُ الْوَرَقِ‏.‏

وَنَحْوِ هَذَا مِنَ الْكَلِمَاتِ الَّتِي أَحْسَنُ أَحْوَالِ قَائِلِهَا‏:‏ أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا يُعْذَرُ بِجَهْلِهِ، أَوْ شَاطِحًا مُعْتَرَفًا بِشَطْحِهِ، وَإِلَّا فَلَوْلَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَأَمْثَالُهُ، وَلَوْلَا أَخْبَرَنَا وَحَدَّثَنَا لَمَا وَصَلَ إِلَى هَذَا وَأَمْثَالِهِ شَيْءٌ مِنَ الْإِسْلَامِ‏.‏

وَمَنْ أَحَالَكَ عَلَى غَيْرِ أَخْبَرَنَا وَحَدَّثَنَا فَقَدْ أَحَالَكَ‏:‏ إِمَّا عَلَى خَيَالِ صُوفِيٍّ، أَوْ قِيَاسِ فَلْسَفِيٍّ‏.‏ أَوْ رَأْيِ نَفْسِيٍّ‏.‏ فَلَيْسَ بَعْدَ الْقُرْآنِ وَأَخْبَرَنَا وَحَدَّثَنَا إِلَّا شُبَهَاتُ الْمُتَكَلِّمِينَ‏.‏ وَآرَاءُ الْمُنْحَرِفِينَ، وَخَيَالَاتُ الْمُتَصَوِّفِينَ، وَقِيَاسُ الْمُتَفَلْسِفِينَ‏.‏ وَمَنْ فَارَقَ الدَّلِيلَ، ضَلَّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ‏.‏ وَلَا دَلِيلَ إِلَى اللَّهِ وَالْجَنَّةِ، سِوَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ‏.‏ وَكُلُّ طَرِيقٍ لَمْ يَصْحَبْهَا دَلِيلُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فَهِيَ مِنْ طُرُقِ الْجَحِيمِ، وَالشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ‏.‏

وَالْعِلْمُ مَا قَامَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ‏.‏ وَالنَّافِعُ مِنْهُ‏:‏ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ‏.‏ وَالْعِلْمُ خَيْرٌ مِنَ الْحَالِ‏:‏ الْعِلْمُ حَاكِمٌ‏.‏ وَالْحَالُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ‏.‏ وَالْعِلْمُ هَادٍ‏.‏ وَالْحَالُ تَابِعٌ‏.‏ وَالْعِلْمُ آمِرٌ نَاهٍ‏.‏ وَالْحَالُ مَنْفَذٌ قَابِلٌ، وَالْحَالُ سَيْفٌ، إِنْ لَمْ يَصْحَبْهُ الْعِلْمُ فَهُوَ مِخْرَاقٌ فِي يَدِ لَاعِبٍ‏.‏ الْحَالُ مَرْكِبٌ لَا يُجَارَى‏.‏ فَإِنْ لَمْ يَصْحَبْهُ عِلْمٌ أَلْقَى صَاحِبَهُ فِي الْمَهَالِكِ وَالْمَتَالِفِ‏.‏ وَالْحَالُ كَالْمَالِ يُؤْتَاهُ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ‏.‏ فَإِنْ لَمْ يَصْحَبْهُ نُورُ الْعِلْمِ كَانَ وَبَالًا عَلَى صَاحِبِهِ‏.‏

الْحَالُ بِلَا عِلْمٍ كَالسُّلْطَانِ الَّذِي لَا يَزَعُهُ عَنْ سَطْوَتِهِ وَازِعٌ‏.‏

الْحَالُ بِلَا عِلْمٍ كَالنَّارِ الَّتِي لَا سَائِسَ لَهَا‏.‏

نَفْعُ الْحَالِ لَا يَتَعَدَّى صَاحِبَهُ‏.‏ وَنَفْعُ الْعِلْمِ كَالْغَيْثِ يَقَعُ عَلَى الظِّرَابِ وَالْآكَامِ وَبُطُونِ الْأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ‏.‏

دَائِرَةُ الْعِلْمِ تَسَعُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ‏.‏ وَدَائِرَةُ الْحَالِ تَضِيقُ عَنْ غَيْرِ صَاحِبِهِ‏.‏ وَرُبَّمَا ضَاقَتْ عَنْهُ‏.‏

الْعِلْمُ هَادٍ وَالْحَالُ الصَّحِيحُ مُهْتَدٍ بِهِ‏.‏ وَهُوَ تَرِكَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَتُرَاثُهُمْ‏.‏ وَأَهْلُهُ عُصْبَتُهُمْ وَوُرَّاثُهُمْ، وَهُوَ حَيَاةُ الْقُلُوبِ‏.‏ وَنُورُ الْبَصَائِرِ‏.‏ وَشِفَاءُ الصُّدُورِ‏.‏ وَرِيَاضُ الْعُقُولِ‏.‏ وَلَذَّةُ الْأَرْوَاحِ‏.‏ وَأَنَسُ الْمُسْتَوْحِشِينَ‏.‏ وَدَلِيلُ الْمُتَحَيِّرِينَ‏.‏ وَهُوَ الْمِيزَانُ الَّذِي بِهِ تُوزَنُ الْأَقْوَالُ وَالْأَعْمَالُ وَالْأَحْوَالُ‏.‏

وَهُوَ الْحَاكِمُ الْمُفَرِّقُ بَيْنَ الشَّكِّ وَالْيَقِينِ، وَالْغَيِّ وَالرَّشَادِ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ‏.‏

بِهِ يُعْرَفُ اللَّهُ وَيُعْبَدُ، وَيُذْكَرُ وَيُوَحَّدُ، وَيُحْمَدُ وَيُمَجَّدُ‏.‏ وَبِهِ اهْتَدَى إِلَيْهِ السَّالِكُونَ‏.‏ وَمِنْ طَرِيقِهِ وَصَلَ إِلَيْهِ الْوَاصِلُونَ‏.‏ وَمِنْ بَابِهِ دَخَلَ عَلَيْهِ الْقَاصِدُونَ‏.‏

بِهِ تُعْرَفُ الشَّرَائِعُ وَالْأَحْكَامُ، وَيَتَمَيَّزُ الْحَلَالُ مِنَ الْحَرَامِ‏.‏ وَبِهِ تُوصَلُ الْأَرْحَامُ وَبِهِ تُعْرَفُ مَرَاضِي الْحَبِيبِ، وَبِمَعْرِفَتِهَا وَمُتَابَعَتِهَا يُوصَلُ إِلَيْهِ مِنْ قَرِيبٍ‏.‏

وَهُوَ إِمَامٌ، وَالْعَمَلُ مَأْمُومٌ‏.‏ وَهُوَ قَائِدٌ، وَالْعَمَلُ تَابِعٌ‏.‏ وَهُوَ الصَّاحِبُ فِي الْغُرْبَةِ وَالْمُحَدِّثُ فِي الْخَلْوَةِ، وَالْأَنِيسُ فِي الْوَحْشَةِ‏.‏ وَالْكَاشِفُ عَنِ الشُّبْهَةِ‏.‏ وَالْغِنَى الَّذِي لَا فَقْرَ عَلَى مَنْ ظَفِرَ بِكَنْزِهِ‏.‏ وَالْكَنَفُ الَّذِي لَا ضَيْعَةَ عَلَى مَنْ آوَى إِلَى حِرْزِهِ‏.‏

مُذَكَرَاتُهُ تَسْبِيحٌ‏.‏ وَالْبَحْثُ عَنْهُ جِهَادٌ‏.‏ وَطَلَبُهُ قُرْبَةٌ‏.‏ وَبَذْلُهُ صَدَقَةٌ‏.‏ وَمُدَارَسَتُهُ تَعْدِلُ بِالصِّيَامِ وَالْقِيَامِ‏.‏ وَالْحَاجَةُ إِلَيْهِ أَعْظَمُ مِنْهَا إِلَى الشَّرَابِ وَالطَّعَامِ‏.‏

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏:‏ النَّاسُ إِلَى الْعِلْمِ أَحْوَجُ مِنْهُمْ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ‏.‏ لِأَنَّ الرَّجُلَ يَحْتَاجُ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فِي الْيَوْمِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ‏.‏ وَحَاجَتُهُ إِلَى الْعِلْمِ بِعَدَدِ أَنْفَاسِهِ‏.‏

وَرُوِّينَاعَنِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ طَلَبُ الْعِلْمِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ النَّافِلَةِ‏.‏

وَنَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ‏:‏ كُنْتُ بَيْنَ يَدِي مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏.‏ فَوَضَعْتُ أَلْوَاحِي وَقُمْتُ أُصَلِّي‏.‏ فَقَالَ‏:‏ مَا الَّذِي قُمْتَ إِلَيْهِ بِأَفْضَلَ مِمَّا قُمْتَ عَنْهُ‏.‏

ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ‏.‏

وَاسْتَشْهَدَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِأَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَجَلِّ مَشْهُودٍ بِهِ، وَهُوَ التَّوْحِيدُ وَقَرَنَ شَهَادَتَهُمْ بِشَهَادَتِهِ وَشَهَادَةِ مَلَائِكَتِهِ‏.‏ وَفِي ضِمْنِ ذَلِكَ تَعْدِيلُهُمْ‏.‏ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يَسْتَشْهِدُ بِمَجْرُوحٍ‏.‏

وَمِنْ هَاهُنَا- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- يُؤْخَذُ الْحَدِيثُ الْمَعْرُوفُ يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلْفٍ عُدُولُهُ‏.‏ يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَتَأْوِيلَ الْمُبْطِلِينَ‏.‏

وَهُوَ حُجَّةُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ‏.‏ وَنُورُهُ بَيْنَ عِبَادِهِ‏.‏ وَقَائِدُهُمْ وَدَلِيلُهُمْ إِلَى جَنَّتِهِ‏.‏ وَمُدْنِيهِمْ مِنْ كَرَامَتِهِ‏.‏

وَيَكْفِي فِي شَرَفِهِ‏:‏ أَنَّ فَضْلَ أَهْلِهِ عَلَى الْعِبَادِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةِ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ‏.‏ وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ لَهُمْ أَجْنِحَتَهَا، وَتُظِلُّهُمْ بِهَا، وَأَنَّ الْعَالِمَ يَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْبَحْرِ، وَحَتَّى النَّمْلُ فِي جُحْرِهَا، وَأَنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِي النَّاسِ الْخَيْرَ‏.‏

وَلَقَدْ رَحَلَ كَلِيمُ الرَّحْمَنِ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فِي طَلَبِ الْعِلْمِ هُوَ وَفَتَاهُ، حَتَّى مَسَّهُمَا النَّصَبُ فِي سَفَرِهِمَا فِي طَلَبِ الْعِلْمِ‏.‏ حَتَّى ظَفِرَ بِثَلَاثِ مَسَائِلَ‏.‏ وَهُوَ مِنْ أَكْرَمِ الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ وَأَعْلَمِهِمْ بِهِ‏.‏

وَأَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يَسْأَلَهُ الْمَزِيدَ مِنْهُ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا‏}‏‏.‏

وَحَرَّمَ اللَّهُ صَيْدَ الْجَوَارِحِ الْجَاهِلَةِ، وَإِنَّمَا أَبَاحَ لِلْأُمَّةِ صَيْدَ الْجَوَارِحِ الْعَالِمَةِ‏.‏

فَهَكَذَا جَوَارِحُ الْإِنْسَانِ الْجَاهِلِ لَا يُجْدِي عَلَيْهِ صَيْدُهَا مِنَ الْأَعْمَالِ شَيْئًا‏.‏ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏تَعْرِيفُ الْعِلْمِ‏]‏

قَالَ صَاحِبُ ‏"‏ الْمَنَازِلِ ‏"‏ رَحِمَهُ اللَّهُ‏.‏

الْعِلْمُ مَا قَامَ بِدَلِيلٍ‏.‏ وَرَفَعَ الْجَهْلَ تَعْرِيفَ الْعِلْمِ‏.‏

يُرِيدُ‏:‏ أَنَّ لِلْعِلْمِ عَلَامَةً قَبْلَهُ، وَعَلَامَةً بَعْدَهُ، فَعَلَامَتُهُ قَبْلَهُ‏:‏ مَا قَامَ بِهِ الدَّلِيلُ‏.‏ وَعَلَامَتُهُ بَعْدَهُ‏:‏ رَفْعُ الْجَهْلِ‏.‏

‏[‏دَرَجَاتُ الْعِلْمِ‏]‏

‏[‏الدَّرَجَةُ الْأُولَى عِلْمٌ جَلِيٌّ‏]‏

قَالَ‏:‏ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثٍ دَرَجَاتُ الْعِلْمِ‏.‏ الدَّرَجَةُ الْأُولَى‏:‏ عِلْمٌ جَلِيٌّ‏.‏ بِهِ يَقَعُ الْعِيَانُ‏.‏ وَاسْتِفَاضَةٌ صَحِيحَةٌ، أَوْ صِحَّةُ تَجْرِبَةٍ قَدِيمَةٍ‏.‏

يُرِيدُ بِالْجَلِيِّ‏:‏ الظَّاهِرَ، الَّذِي لَا خَفَاءَ بِهِ‏.‏ وَجَعَلَهُ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ‏.‏

أَحَدُهَا‏:‏ مَا وَقَعَ عَنْ عِيَانٍ‏.‏ وَهُوَ الْبَصَرُ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ مَا اسْتَنَدَ إِلَى السَّمْعِ‏.‏ وَهُوَ عِلْمُ الِاسْتِفَاضَةِ‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ مَا اسْتَنَدَ إِلَى الْعَقْلِ‏.‏ وَهُوَ عِلْمُ التَّجْرِبَةِ‏.‏

فَهَذِهِ الطُّرُقُ الثَّلَاثَةُ- وَهِيَ السَّمْعُ، وَالْبَصَرُ، وَالْعَقْلُ- هِيَ طُرُقُ الْعِلْمِ وَأَبْوَابُهُ وَلَا تَنْحَصِرُ طُرُقُ الْعِلْمِ فِيمَا ذَكَرَهُ‏.‏ فَإِنَّ سَائِرَ الْحَوَاسِّ تُوجِبُ الْعِلْمَ‏.‏

وَكَذَا مَا يُدْرَكُ بِالْبَاطِنِ‏.‏ وَهِيَ الْوِجْدَانِيَّاتُ‏.‏

وَكَذَا مَا يُدْرَكُ بِخَبَرِ الْمُخْبِرِ الصَّادِقِ، وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا‏.‏

وَكَذَا مَا يَحْصُلُ بِالْفِكْرِ وَالِاسْتِنْبَاطِ‏.‏ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَنْ تَجْرِبَةٍ‏.‏

فَالْعِلْمُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا فَقَطْ‏.‏

وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَعْرِفَةِ مِنْ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ‏.‏

أَحَدُهَا‏:‏ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ لُبُّ الْعِلْمِ، وَنِسْبَةُ الْعِلْمِ إِلَيْهَا كَنِسْبَةِ الْإِيمَانِ إِلَى الْإِحْسَانِ‏.‏ وَهِيَ عِلْمٌ خَاصٌّ، مُتَعَلِّقُهَا أَخْفَى مِنْ مُتَعَلِّقِ الْعِلْمِ وَأَدَقُّ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ هِيَ الْعِلْمُ الَّذِي يُرَاعِيهِ صَاحِبُهُ بِمُوجِبِهِ وَمُقْتَضَاهُ‏.‏ فَهِيَ عِلْمٌ تَتَّصِلُ بِهِ الرِّعَايَةُ‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ شَاهِدٌ لِنَفْسِهَا، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْأُمُورِ الْوِجْدَانِيَّةِ، الَّتِي لَا يُمْكِنُ صَاحِبُهَا أَنْ يَشُكَّ فِيهَا، وَلَا يَنْتَقِلَ عَنْهَا‏.‏

وَكَشْفُ الْمَعْرِفَةِ أَتَمُّ مِنْ كَشْفِ الْعِلْمِ‏.‏ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ عِلْمٌ خَفِيٌّ‏]‏

قَالَ‏:‏ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ‏:‏ عِلْمٌ خَفِيٌّ‏.‏ يَنْبُتُ فِي الْأَسْرَارِ الطَّاهِرَةِ، مِنَ الْأَبْدَانِ الزَّاكِيَةِ، بِمَاءِ الرِّيَاضَةِ الْخَالِصَةِ، وَيَظْهَرُ فِي الْأَنْفَاسِ الصَّادِقَةِ، لِأَهْلِ الْهِمَّةِ الْعَالِيَةِ، فِي الْأَحَايِينِ الْخَالِيَةِ، وَالْأَسْمَاعِ الصَّاخِيَةِ‏.‏ وَهُوَ عِلْمٌ يُظْهِرُ الْغَائِبَ، وَيُغَيِّبُ الشَّاهِدَ، وَيُشِيرُ إِلَى الْجَمْعِ‏.‏

يَعْنِي‏:‏ أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ خَفَّيٌّ عَلَى أَهْلِ الدَّرَجَةِ الْأَوْلَى، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْمَعْرِفَةِ عِنْدَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ يَنْبُتُ فِي الْأَسْرَارِ الطَّاهِرَةِ‏.‏

لَفْظُ السِّرِّ يُطْلَقُ فِي لِسَانِهِمْ وَيُرَادُ بِهِ أُمُورٌ‏.‏

أَحَدُهَا‏:‏ اللَّطِيفَةُ الْمُودَعَةُ فِي هَذَا الْقَالَبِ، الَّتِي حَصَلَ بِهَا الْإِدْرَاكُ وَالْمَحَبَّةُ وَالْإِرَادَةُ وَالْعِلْمُ‏.‏ وَذَلِكَ هُوَ الرُّوحُ‏.‏

الثَّانِي‏:‏ مَعْنًى قَائِمٌ بِالرُّوحِ‏.‏ نِسْبِتُهُ إِلَى الرُّوحِ كَنِسْبَةِ الرُّوحِ إِلَى الْبَدَنِ‏.‏ وَغَالِبًا مَا يُرِيدُونَ بِهِ‏:‏ هَذَا الْمَعْنَى‏.‏

وَعِنْدَهُمْ‏:‏ أَنَّ الْقَلْبَ أَشْرَفُ مَا فِي الْبَدَنِ، وَالرُّوحَ أَشْرَفُ مِنَ الْقَلْبِ‏.‏ وَالسِّرَّ أَلْطَفُ مِنَ الرُّوحِ‏.‏

وَعِنْدَهُمْ‏:‏ لِلسِّرِّ سِرٌّ آخَرُ‏.‏ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ غَيْرُ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ‏.‏ وَصَاحِبُهُ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ، وَإِنِ اطَّلَعَ عَلَى سِرِّهِ‏.‏ فَيَقُولُونَ السِّرُّ مَا لَكَ عَلَيْهِ إِشْرَافٌ، وَسِرُّ السِّرِّ مَا لَا اطِّلَاعَ عَلَيْهِ لِغَيْرِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ‏.‏

وَالْمَعْنَى الثَّالِثُ‏:‏ يُرَادُ بِهِ مَا يَكُونُ مَصُونًا مَكْتُومًا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ، مِنَ الْأَحْوَالِ وَالْمَقَامَاتِ‏.‏ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ أَسْرَارُنَا بِكْرٌ‏.‏ لَمْ يَفْتَضَّهَا وَهْمُ وَاهِمٍ‏.‏

وَيَقُولُ قَائِلُهُمْ‏:‏ لَوْ عَرَفَ زِرِّي سِرِّي لِطَرَحْتُهُ‏.‏

وَالْمَقْصُودُ قَوْلُهُ‏:‏ يَنْبُتُ فِي الْأَسْرَارِ الطَّاهِرَةِ‏.‏

يَعْنِي‏:‏ الطَّاهِرَةُ مِنْ كَدَرِ الدُّنْيَا وَالِاشْتِغَالِ بِهَا، وَعَلَائِقِهَا الَّتِي تَعُوقُ الْأَرْوَاحَ عَنْ دِيَارِ الْأَفْرَاحِ‏.‏ فَإِنَّ هَذِهِ أَكْدَارٌ، وَتَنَفُّسَاتٌ فِي وَجْهِ مِرْآةِ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ‏.‏ فَلَا تَنْجَلِي فِيهَا صُوَرُ الْحَقَائِقِ كَمَا يَنْبَغِي‏.‏ وَالنَّفْسُ تَنَفَّسُ فِيهَا دَائِمًا بِالرَّغْبَةِ فِي الدُّنْيَا وَالرَّهْبَةِ مِنْ فَوْتِهَا‏.‏ فَإِذَا جُلِيَتِ الْمِرْآةُ بِإِذْهَابِ هَذِهِ الْأَكْدَارِ صَفَتْ‏.‏ وَظَهَرَتْ فِيهَا الْحَقَائِقُ وَالْمَعَارِفُ‏.‏

وَأَمَّا الْأَبْدَانُ الزَّكِيَّةُ‏.‏

فَهِيَ الَّتِي زَكَتْ بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَنَبَتَتْ عَلَى أَكْلِ الْحَلَالِ‏.‏ فَمَتَى خَلَصَتِ الْأَبْدَانُ مِنَ الْحَرَامِ، وَأَدْنَاسِ الْبَشَرِيَّةِ، الَّتِي يَنْهَى عَنْهَا الْعَقْلُ وَالدِّينُ وَالْمُرُوءَةُ، وَطَهُرَتِ الْأَنْفُسُ مِنْ عَلَائِقِ الدُّنْيَا‏:‏ زَكَتْ أَرْضُ الْقَلْبِ‏.‏ فَقَبِلَتْ بَذْرَ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ‏.‏ فَإِنْ سُقِيَتْ- بَعْدَ ذَلِكَ- بِمَاءِ الرِّيَاضَةِ الشَّرْعِيَّةِ النَّبَوِيَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ- وَهِيَ الَّتِي لَا تَخْرُجُ عَنْ عِلْمٍ، وَلَا تَبْعُدُ عَنْ وَاجِبٍ وَلَا تُعَطِّلُ سُنَّةً- أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ، مِنْ عِلْمٍ وَحِكْمَةٍ وَفَائِدَةٍ وَتَعَرُّفٍ‏.‏ فَاجْتَنَى مِنْهَا صَاحِبُهَا وَمَنْ جَالَسَهُ أَنْوَاعَ الطُّرَفِ وَالْفَوَائِدِ، وَالثِّمَارِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَلْوَانِ وَالْأَذْوَاقِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ‏:‏ إِذَا عُقِدَتِ الْقُلُوبُ عَلَى تَرْكِ الْمَعَاصِي‏:‏ جَالَتْ فِي الْمَلَكُوتِ‏.‏ ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى أَصْحَابِهَا بِأَنْوَاعِ التُّحَفِ وَالْفَوَائِدِ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ وَتَظْهَرُ فِي الْأَنْفَاسِ الصَّادِقَةِ يُرِيدُ بِالْأَنْفَاسِ أَمْرَيْنِ‏.‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنْفَاسُ الذِّكْرِ وَالْمَعْرِفَةِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنْفَاسُ الْمَحَبَّةِ وَالْإِرَادَةِ‏.‏ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْرُوفِ الْمَذْكُورِ‏.‏ وَبِالْمَحْبُوبِ الْمُرَادِ مِنَ الذَّاكِرِ وَالْمُحِبِّ‏.‏ وَصِدْقُهَا خُلُوصُهَا مِنْ شَوَائِبِ الْأَغْيَارِ وَالْحُظُوظِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ لِأَهْلِ الْهِمَمِ الْعَالِيَةِ فَهِيَ الَّتِي لَا تَقِفُ دُونَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏.‏ وَلَا تُعَرِّجُ فِي سَفَرِهَا عَلَى شَيْءٍ سِوَاهُ‏.‏ وَأَعْلَى الْهِمَمِ‏:‏ مَا تَعَلَّقَ بِالْعَلِيِّ الْأَعْلَى‏.‏ وَأَوْسَعُهَا‏:‏ مَا تَعَلَّقَ بِصَلَاحِ الْعِبَادِ‏.‏ وَهِيَ هِمَمُ الرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ، وَوَرَثَتِهِمْ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ فِي الْأَحَايِينِ الْخَالِيَةِ‏.‏

يُرِيدُ بِهَا‏:‏ سَاعَاتِ الصَّفَاءِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَوْقَاتِ النَّفَحَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، الَّتِي مَنْ تَعَرَّضَ لَهَا يُوشِكُ أَنْ لَا يُحْرَمَهَا‏.‏ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْهَا فَهِيَ عَنْهُ أَشَدُّ إِعْرَاضًا‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ فِي الْأَسْمَاعِ الصَّاخِيَةِ

فَهِيَ الَّتِي صَحَتْ مِنْ تَعَلُّقِهَا بِالْبَاطِلِ وَاللَّغْوِ، وَأَصَاخَتْ لِدَعْوَةِ الْحَقِّ، وَمُنَادِي الْإِيمَانِ‏.‏ فَإِنَّ الْبَاطِلَ وَاللَّغْوَ خَمْرُ الْأَسْمَاعِ وَالْعُقُولِ‏.‏ فَصَحْوُهَا بِتَجَنُّبِهِ وَالْإِصْغَاءِ إِلَى دَعْوَةِ الْحَقِّ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ وَهُوَ عِلْمٌ يُظْهِرُ الْغَائِبَ أَيْ يَكْشِفُ مَا كَانَ غَائِبًا عَنِ الْعَارِفِ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ وَيُغَيِّبُ الشَّاهِدَ أَيْ يُغِيِّبَهُ عَنْ شُهُودِ مَا سِوَى مَشْهُودِهِ الْحَقِّ‏.‏

وَيُشِيرُ إِلَى الْجَمْعِ وَهُوَ مَقَامُ الْفَرْدَانِيَّةِ، وَاضْمِحْلَالُ الرُّسُومِ، حَتَّى رَسْمِ الشَّاهِدِ نَفْسِهِ‏.‏ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ عِلْمٌ لَدُنِّيٌ‏]‏

قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ‏:‏ عِلْمٌ لَدُنِّيٌ‏.‏ إِسْنَادُهُ وُجُودُهُ، وَإِدْرَاكُهُ عِيَانُهُ‏.‏ وَنَعْتُهُ حُكْمُهُ‏.‏ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَيْبِ حِجَابٌ‏.‏

يُشِيرُ الْقَوْمُ بِالْعِلْمِ اللَّدُنِّيِ إِلَى مَا يَحْصُلُ لِلْعَبْدِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، بَلْ بِإِلْهَامٍ مِنَ اللَّهِ، وَتَعْرِيفٍ مِنْهُ لِعَبْدِهِ، كَمَا حَصَلَ لِلْخَضِرِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِغَيْرِ وَاسِطَةِ مُوسَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا‏}‏‏.‏

وَفَرَّقَ بَيْنَ الرَّحْمَةِ وَالْعِلْمِ‏.‏ وَجَعَلَهُمَا مِنْ عِنْدِهِ وَمِنْ لَدُنْهُ إِذْ لَمْ يَنُلْهُمَا عَلَى يَدِ بِشْرٍ، وَكَانَ مِنْ لَدُنْهُ أَخَصَّ وَأَقْرَبَ مِنْ عِنْدِهِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا‏}‏ فَـالْسُلْطَانُ النَّصِيرُ الَّذِي مِنْ لَدُنْهُ سُبْحَانَهُ‏:‏ أَخُصُّ وَأَقْرَبُ مِمَّا عِنْدَهُ‏.‏ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا‏}‏‏.‏ وَهُوَ الَّذِي أَيَّدَهُ بِهِ‏.‏ وَالَّذِي مِنْ عِنْدِهِ‏:‏ نَصْرُهُ بِالْمُؤْمِنِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ‏}‏‏.‏

وَالْعِلْمُ اللَّدُنِّيُّ ثَمَرَةُ الْعُبُودِيَّةِ وَالْمُتَابَعَةِ، وَالصِّدْقِ مَعَ اللَّهِ، وَالْإِخْلَاصِ لَهُ، وَبَذْلِ الْجُهْدِ فِي تَلَقِّي الْعِلْمِ مِنْ مِشْكَاةِ رَسُولِهِ‏.‏ وَكَمَالِ الِانْقِيَادِ لَهُ‏.‏ فَيَفْتَحُ لَهُ مِنْ فَهْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِأَمْرٍ يَخُصُّهُ بِهِ، كَمَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَقَدْ سُئِلَ هَلْ خَصَّكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ دُونَ النَّاسِ‏؟‏- فَقَالَ‏:‏ لَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسْمَةَ‏.‏ إِلَّا فَهْمًا يُؤْتِيهِ اللَّهُ عَبْدًا فِي كِتَابِهِ‏.‏

فَهَذَا هُوَ الْعِلْمُ اللَّدُنِّيُّ الْحَقِيقِيُّ ‏,‏ وَأَمَّا عِلْمُ مَنْ أَعْرَضَ عَنِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَمْ يَتَقَيَّدْ بِهِمَا‏:‏ فَهُوَ مِنْ لَدُنِ النَّفْسِ وَالْهَوَى، وَالشَّيْطَانِ، فَهُوَ لَدُنَّيٌّ‏.‏ لَكِنْ مِنْ لَدُنْ مَنْ‏؟‏ وَإِنَّمَا يُعْرَفُ كَوْنُ الْعِلْمِ لَدُنَّيًّا رَحْمَانِيًّا‏:‏ بِمُوَافَقَتِهِ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏.‏ فَالْعِلْمُ اللَّدُنِّيُّ نَوْعَانِ‏:‏ لَدُنِّيٌّ رَحْمَانِيٌّ، وَلَدُنِّيٌّ شَيْطَانِيٌّ بَطْنَاوِيٌّ‏.‏ وَالْمَحَكُّ‏:‏ هُوَ الْوَحْيُ‏.‏ وَلَا وَحْيَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَأَمَّا قِصَّةُ مُوسَى مَعَ الْخَضِرِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ‏:‏ فَالتَّعَلُّقُ بِهَا فِي تَجْوِيزِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الْوَحْيِ بِالْعِلْمِ اللَّدُنِّيِّ إِلْحَادٌ، وَكُفْرٌ مُخْرِجٌ عَنِ الْإِسْلَامِ، مُوجِبٌ لِإِرَاقَةِ الدَّمِ‏.‏

وَالْفَرْقُ‏:‏ أَنَّ مُوسَى لَمْ يَكُنْ مَبْعُوثًا إِلَى الْخَضِرِ‏.‏ وَلَمْ يَكُنْ الْخَضِرُ مَأْمُورًا بِمُتَابَعَتِهِ‏.‏ وَلَوْ كَانَ مَأْمُورًا بِهَا لَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُهَاجِرَ إِلَى مُوسَى وَيَكُونَ مَعَهُ‏.‏ وَلِهَذَا قَالَ لَهُ‏:‏ أَنْتَ مُوسَى نَبِيُّ بَنِي إِسْرَائِيلَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ‏.‏

وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَبْعُوثٌ إِلَى جَمِيعِ الثِّقْلَيْنِ‏.‏ فَرِسَالَتُهُ عَامَّةٌ لِلْجِنِّ وَالْإِنْسِ، فِي كُلِّ زَمَانٍ‏.‏ وَلَوْ كَانَ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ حَيَّيْنِ لَكَانَا مِنْ أَتْبَاعِهِ، وَإِذَا نَزَلَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَإِنَّمَا يَحْكُمُ بِشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

فَمَنِ ادَّعَى أَنَّهُ مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالْخَضِرِ مَعَ مُوسَى‏.‏ أَوْ جَوَّزَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ مِنَ الْأُمَّةِ‏:‏ فَلْيُجَدِّدْ إِسْلَامَهُ، وَلْيَتَشَهَّدْ شَهَادَةَ الْحَقِّ‏.‏ فَإِنَّهُ بِذَلِكَ مُفَارِقٌ لِدِينِ الْإِسْلَامِ بِالْكُلِّيَّةِ‏.‏ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ خَاصَّةِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ‏.‏ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ وَخُلَفَائِهِ وَنُوَّابِهِ‏.‏

وَهَذَا الْمَوْضِعُ مَقْطَعٌ وَمَفْرَقٌ بَيْنَ زَنَادِقَةِ الْقَوْمِ، وَبَيْنَ أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ مِنْهُمْ، فَحَرِّكْ تَرَهُ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ إِسْنَادُهُ وُجُودُهُ‏.‏

يَعْنِي‏:‏ أَنَّ طَرِيقَ هَذَا الْعِلْمِ‏:‏ وِجْدَانُهُ، كَمَا أَنَّ طَرِيقَ غَيْرِهِ‏:‏ هُوَ الْإِسْنَادُ‏.‏

وَإِدْرَاكُهُ عِيَانَهُ‏.‏ أَيْ إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ لَا يُؤْخَذُ بِالْفِكْرِ وَالِاسْتِنْبَاطِ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ عِيَانًا وَشُهُودًا‏.‏

وَنَعْتُهُ حُكْمُهُ‏.‏ يَعْنِي‏:‏ أَنَّ نُعُوتَهُ لَا يُوصَلُ إِلَيْهَا إِلَّا بِهِ، فَهِيَ قَاصِرَةٌ عَنْهُ، يَعْنِي أَنَّ شَاهِدَهُ مِنْهُ، وَدَلِيلَ وُجُودِهِ‏.‏ وَإِنِّيَتَهُ لِمِّيَّتُهُ، فَبُرْهَانُ الْإِنِّ فِيهِ‏.‏ هُوَ بُرْهَانُ اللَّمِّ‏.‏ فَهُوَ الدَّلِيلُ‏.‏ وَهُوَ الْمَدْلُولُ‏.‏ وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغُيُوبِ حِجَابٌ‏.‏ بِخِلَافِ مَا دُونَهُ مِنَ الْعُلُومِ‏.‏ فَإِنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعُلُومِ حِجَابًا‏.‏

وَالَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ الْقَوْمُ‏:‏ هُوَ نُورٌ مِنْ جَنَابِ الْمَشْهُودِ‏.‏ يَمْحُو قُوَى الْحَوَاسِّ وَأَحْكَامَهَا‏.‏ وَيَقُومُ لِصَاحِبِهَا مَقَامَهَا‏.‏ فَهُوَ الْمَشْهُودُ بِنُورِهِ، وَيَفْنَى مَا سِوَاهُ بِظُهُورِهِ، وَهَذَا عِنْدَهُمْ مَعْنَى الْأَثَرِ الْإِلَهِيِّ فَإِذَا أَحْبَبْتَهُ كُنْتَ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، فَبِي يَسْمَعُ‏.‏ وَبِي يُبْصِرُ‏.‏

وَالْعِلْمُ اللَّدُنِيُّ الرَّحْمَانِيُّ‏:‏ هُوَ ثَمَرَةُ هَذِهِ الْمُوَافَقَةِ، وَالْمَحَبَّةِ الَّتِي أَوْجَبَهَا التَّقَرُّبُ بِالنَّوَافِلِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ‏.‏

وَاللَّدُنِّيُّ الشَّيْطَانِيُّ‏:‏ ثَمَرَةُ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْوَحْيِ، وَتَحْكِيمِ الْهَوَى وَالشَّيْطَانِ‏.‏ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ‏.‏